‘كنت في الرقّة: سيرة لحم بين أشداق القيامة’

4 أيار (مايو - ماي)، 2017

8 minutes

حاتم محمودي

دفعَنا “محمّد الفاهم” -أحد التونسيين الذين قاتلوا في مدينة “الرقّة” ثمّ تأكّد لهم، فيما بعد، أنّه لا جدوى من قتالهم، فقرّروا الهروب- إلى ضرورة طرح السؤال التالي: من يُسيّر القيامة ويوفّر لها هذا الوقود البشريّ كي تتسنّى عمليّة إشعالها بكلّ هذا العنف؟ رُبَّ سؤال يجعلنا نتشبّه بالقضاة، إذ لا محرّك له غير تهمة نريد إلصاقها بجهة ما، ودعنا نتّفق أوّلًا: نحن، لسوء براءة قضاة هذا العصر، لن نبرّأ أحدًا، فسيرة الدمّ والقيامة ليست بمعزل عن سيرة استبداد الدولة وسيرة الإرهابيين القتلة.

أنت مُطارد، يا “محمّد الفاهم”، وحتى إن نجحت في الهروب، فإنّ مصيرك لن يكون في غير العدم، وفي كلّ الأحوال: سواء كنتَ ذلك القاتل الذي أتى إلى “الرقّة”، بعد أن عصف به استبداد الدولة المدنيّة، أو وأنت تخرج منها الآن، متسلِّلًا، بعد أن اكتشفتَ وهمَ  “الدولة الإسلامية”، ستظلّ مُلاحقًا إلى الأبد، لأنّك لم تدرك في الساعات الأولى -قبل أن تتحوّل فيها إلى إرهابيّ- أنّ محرّك القيامة هو الاستبداد، والعنف الذي لا يختلف في شيء عن بطش “داعش” التي حلمتَ بالقتال في صفوفها، كما لو أنّها جنّتك الأخيرة، أو هي عنوان الخلاص الإنسانيّ من الظلم.

الآن نحن نقرأ اعترافك الذي صرّحت به إلى “هادي يحمد”: اعتراف ترجمه هذا الإعلامي، في روايته الموسومة بـ “كنت في الرقّة”، الصادرة عن دار نقوش عربيّة، ولا نعرف إنْ كنّا سنتعاطف معك لأنّك ضحيّة سجون الاستبداد والقمع في تونس، أو إنْ كنّا سنطلب لك الموت، لأنّك قتلت الأبرياء في سوريّة، وحتّى إنّك أسقطت أكثر من جنديّ في معركة تدمر وغيرها، ودست على الجثث، فهذا لا يمنعنا من إدانتك، وإن كنّا نعترف بوحشية نظامها؛ بما هو لا يختلف في شيء عن النظام التونسي الذي تمّت عمليّة كنسه.

أنت لم تهاجر إلى “الدولة الإسلامية” في مدينة “الرقّة” إلا لأنّ عنف الدولة المدنيّة في تونس صنع منك رجلًا حاقدًا، ولكنّك الآن تجدّد هجرتك بعد أن خذلتك هويّة القتل، وتعرف أنّك صرت ملاحقًا من الجيش السوري، ومن الدولة الإرهابية التي قاتلت في صفوفها، ومن جميع الفصائل المقاتلة هناك: أنت الآن عدوّ الجميع، وستظلّ منبوذًا طوال حياتك! ثمّ إنّ لحمك الآدميّ لم يعد له من أثر إلا في الجسد الكتابيّ لرواية “كنت في الرقّة”. الكلّ هنا يقرأ سيرتك، كيف دست على الجماجم ونكّلت بالجثث، وكيف خاصمت “الدولة الإسلامية” وقرّرت الهروب من بطشها، بعد أن كنت تراها الأجدر بالوجود، لكن ليس ثمّة من يسأل عن مصيرك إلا قلة قليلة من أصدقاء الأمس، وأمّك، وربّما زوجتك الأسيرة في السجون التونسيّة بسببك.

هل الإرهاب وطنُ الذين رفضهم العالم؟ سأعتقد جازمًا -أنا الذي أكتب عنك ببرود، يشبه برودة قيامة تفتح أشداقها، كي تطحن عظامك يا “محمّد الفاهم”- أنّ الإجابة عن هذا السؤال لن تكون إلا بلفظة “نعم“. ولكن الإرهاب يرفضك هو الآخر: علينا الاعتراف، في لحظة كهذه، بأنّه جزء من هذا العالم الذي يموت “وسط نوع من الاضطراب”؛ فالدول التي تقاتل الإرهاب الآن وتدّعي مواجهته هي التي أنتجته: يبدو أنّه لا يمكنها الاستمرار إلا إذا خلقت عدوًّا لها، وهذا يعني أنّها مستعدّة لنشر الغبار البشريّ في سماء القيامة، مقابل أن تضمن وجودها، فلا نحن أبناء لها، ولا الإرهاب وطننا الذي يحمينا من غربتنا في خرائطها ومؤسساتها.

أنت مطارد يا “محمّد الفاهم”، ليس من قِبل أولئك الذي ذكرناهم آنفًا فقط، بل من قِبل قرّاء رواية “كنت في الرقّة” أيضًا. إنّهم يركضون في عالم الورق، ويقلبون الصفحات بسرعة، بحثًا عنك، ولكن هل تعلم ما الذي أثار دهشتهم جميعًا؟ لا أعتقد أنّ هذا الأمر سيعنيك، فأنت الآن –بعد خروجك من الرقّة- مشغولٌ في مكان ما من هذا العالم، بهموم أخرى متعلّقة بتأمين حياتك، بينما يتساءل القرّاء عن سرّ عنادك المتمثّل في كونك لست نادمًا أبدًا، عن جرائمك وخطاياك، ودعني أخبرك: إنّ هؤلاء هم عبيد الدولة المدنيّة، لا فلاسفتها وثوّارها، لذلك هم ينتظرون منك هذا الندم، أن تعود إليها كي تسلّم نفسك إلى سجونها من جديد، ولكنّك خرجت منها ناقمًا، عبرت الصحراء حافي القدمين إلى “ليبيا” ومنها إلى “تركيا”، ومن ثمّ كان محفلك الدموي في “الرقّة”.

سأتفّق معك، إنّ استبداد الأنظمة ووحشيتها قد يجعل من الوطن مصنعًا ناجعًا لتخصيب الإرهاب، ولكنّي لن أثق بك، فأنت لم تخرج عن طاعة “الدولة الإسلاميّة” إلا بعد اكتشافك أنّها أكثر وحشيّة من قمع تلك الأنظمة، أفلم تعترف بأنّها باتت تسلّم جنودها قرابين بالمجان؟ ألم تقل بصريح العبارة: إنّها دولة لا تمتّ إلى الإسلام بأيّ صلة، وإنها تحت سيطرة العصابات ورجال المافيا واللصوص؟

أنت مطارد، يا “صاحبي”، أيّها القاتل الذي كان بالأمس ضحيّة، لستُ قاضيًا كي أحاكمك، ولكن دعني أعترف لك: لقد جعلتني أتأكّد للمرّة الألف في هذا العالم الذي يطبخ رؤوس البشر في قُدُور القيامة، أنّ النظام السوري الذي كنتَ تقاتله في “تدمر” وأمكنة أخرى قريبة من “الرقّة” لا يقلّ عنك وحشيّة، فكلاكما منخرط في معادلة الكارثة وإشعال الحرب، وكلاكما دليل قاطع على عنف العالم، لقد كنت تبحث لك عن سعادة إنسانية، وجدت تمثّلها في القيم المطلقة للمقدّس، ولكن بعد أن تبيّن لك أنك واهم، صرت تدرك أنّه لا فرق بين دمٍ أنت تسفكه، ودمك الذي كان ممكنًا أن يرشّ به ذلك النظام أرض شعبه، وقد خانها.

أجل لقد تبيّن لك ذلك، ولكنّك ستظل مطاردًا في نهاية المطاف، ثمّ إنّك لم تكن تعرف أن رحى المعارك التي تجري الآن، ما هي إلا حالة من اختناق العالم، هذا الذي لا يعنيه المستقبل إلا من حيث الرغبة في تركيعه واختزاله بين حظيرة الدم الإرهابي وعنف الدولة.

لست وحدك من يحمل على جلده خرائط هذه الكارثة ومناحات الأرامل والشعوب المشرّدة، وتراجيديا راهننا البشريّ: ثمّة منك المئات يا “محمّد الفاهم”!

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]