عن أنظمتنا الفكرية.. كيف تعمل؟ من يُشكّلها؟


محمد ديبو

إن التأمل في طرق التفكير، قبل الثورة وبعدها، يطرح أسئلة عميقة عن العقل ونظم التفكير التي ننظر ونفكّر من خلالها في العالم ومشكلاته. هي أسئلة محفوفة باللايقين وبكثيرٍ من الشك؛ لأن حجم اللامعقول والسحر الذي كان يطبع “تفكيرنا”، ويميزه، قبل الثورات، كان كبيرًا ومفجعًا؛ ما يفرض السؤال المطروح: ما الذي يضمن لنا أنّ ما نفكر به اليوم صحيح؟ وكيف نتأكد من صوابية رؤانا ومواقفنا فعلًا؟

الارتكاس الذي وصلت إليه الثورات العربية لم يكن بفعل توحش النظم واستبدادها فحسب، بل ثمة أمرٌ عميق ومهم، يتعلق بنظم تفكيرنا و”ثقافتنا” التي تكونت في مرحلة الاستبداد، حتى وهي تظن أنها تقارعه؛ إذ بينت الثورات أن كثيرًا من الوعي الجمعي كان سندًا للاستبداد حتى في مرحلة ما بعد الثورات، فما بالك بما قبلها؟

إن تأمّل نظرتنا، أو نظرة أغلب الجمهور العربي والنخب أيضًا، لقضايا ومسائل مثل التدخل الخارجي، وبنية الاستبداد والسلاح وحزب الله والقضية الفلسطينية.. تبيّن وحدها مدى العطب والسحر الذي كنا نرقد فيه، إذ كانت أغلب النخبة السورية (والمعارضة منها) تقف إلى جانب حزب الله مثلًا، وتعدّه مقاومة، حاجبةً النظر عن عمقه الطائفي، إلى أن تبيّن لنا أننا كنا نقف ضد قضيتنا في الحرية والديمقراطية، بوقوفنا إلى جانب حزب طائفي، ما هو إلا بيدق إيراني في نهاية المطاف. هنا يتساءل العقل الباحث عن يقين الإجابة: لماذا لم نتمكن من فهم ذلك في تلك اللحظة؟ لم نتمكن من تبيّن السحر والأسطورة فيما كنا نرقد فيه؟ والأسئلة نفسها تنطبق على مسائل مثل تحرير فلسطين وبنية الاستبداد والطائفية وحجم الجدران اللامرئية المرفوعة بين السوريين.. وغيرها؟

تتمثل استراتيجية الاستبداد دومًا في العمل على صناعة رأي عام يتوافق مع ما يريد، إذ إنها تجيّر كلّ أجهزتها ومؤسساتها ومعلوماتها في استخدام كل شيء لتكوين رأي عام، يمكن أخذه باتجاه الهدف الذي تريده، بحيث يصبح الجمهور يحقّق أجندتها من تلقاء نفسه. ثمة قضايا تخترعها السلطة وثمة قضايا (الطائفية والدين والقضية الفلسطينية) موجودة قبل وجود السلطة، تستغلها وتجيّرها بما يخدم ما تريد، فيغدو الواقعون في مجال عمل السلطة معرضين لأن يصبحوا أسرى المجال العام الذي تسعى السلطة لإنتاجه أي جزءًا من القطيع، وهذا ما يفسر لنا سعي كل السلطات للهيمنة على الإعلام وتعزيز الرقابة ووضع المحرمات التي تمنع تناول مسائل مثل الجيش والطائفية، محتكرة إياهما؛ لإغلاق باب النقاش الذي قد يحفز القطيع للتفكير فالنقد فتكوين رأي عام معارض لرأي السلطة.

إن المعارضة أو النخبة المثقفة، بحكم كونهما ضد السلطة -الأولى سياسيًا والثانية، بالمعنى العميق لكلمة ثقافة- يتركز عملهما على هتك الفضاء العام السلطوي وكشف أسراره وفضح “أفكار” السلطة ومنظومتها. إن تأمل الحالة السورية، بناءًا على ذلك، يوضح لنا أن النخبة الثقافية والمعارضة السياسية للنظام كانت تأتي من موقع جزئي، وليس من موقع جذري، فالصراع كان يتركز على السلطة والحقوق والحريات فيما يغفل عن مسائل الطائفية والجيش والأجهزة الأمنية والقضية الفلسطينية، إذ لم يدرك العقل هذا (إلا ما ندر) أنه ليس بالإمكان تحقيق الأول قبل كسر سردية السلطة في ما يتعلق بالثاني الذي هو أحد أدوات السلطة للقبض على الأول. ولكن ثمة سؤال يُطرح هنا: هل كان بالإمكان تحقيق ذلك؟ أليس المثقف الذي يعيش، في فضاء ما، هو أسير ذلك الفضاء وأسير المعلومات الشحيحة المتوافرة ضمنه؟

في حقيقة الأمر، إن المثقف يجد نفسه في ظل سلطة، تتحكم بالمعلومات التي تصل أو تجعل الوصول إلى المعلومة يستهلك وقتًا كبيرًا، فضلًا عن ندرة المعلومات الموثوقة حول مسائل كثيرة؛ ما يجعل إمكان إحداث اختراق كبير أمرًا صعبًا، ولهذا نجد بعض الاختراقات هنا التي سجلها بعض المثقفين كأفراد، ولكن ضمن المجال الجمعي، نجد الأمر قريبًا من المستحيل، علمًا أن المجال العام لا يُصنع من دون تواطؤ المتحكمين في المجال العام السوري من الخارج أيضًا، إذ مع بدء الثورة السورية بدأ جدار الاستبداد الداخلي يتضعضع، بالتوازي مع رفع الغطاء الدولي والإقليمي عنه من بعض الدول الفاعلة، فبات الإعلام فجأة يقدم كل شيء عن طبيعة النظام السوري وبنيته واحتكاره الطائفية والثروة والسلطة، وانكسرت كل المحرمات (الجيش، المقاومة..) ولهذا بات الوعي الجمعي قادرًا على تجاوز النظام والثورة عليه، وبات المثقف قادرًا على تشكيل رأي عام وطريقة تفكير جديدة، بناءًا على المعلومات المتدفقة التي لم تكن بمتناول اليد سابقًا، وإن تواجدت فإن أمر إيصالها للجمهور يغدو أمرًا شبه مستحيل.

ولكن العقل النقدي ما يزال يتساءل: إذا كان تفكيرنا محكومًا بالفضاء العام الذي أنشأه الاستبداد آنذاك، بالتواطؤ مع الاستبدادات الأخرى التي تصادمت معه لمصالحها، فما الذي يضمن لنا أننا لا نقع اليوم في شرك الفضاء العام الذي تعمل هذه الاستبدادات على صنعه؟ أليس السعي لتعويم خطر “داعش” والإرهاب وإعادة الثورة المضادة إلى الحكم هو من صنع هؤلاء الذين يتحكمون اليوم، بتدفق المعلومات عبر وسائل التواصل والإعلام الذي بات أداةً لهذه النظم أكثر مما هو أداة لقول الحقيقة؟

النقد، وإعادة التفكير الدائم بالمسَلّمات واليقينات والبحث عن معلومات وأرقام من خارج ما تقدمه تلك المؤسسات هو الضامن الوحيد، من دون أن يعني ذلك أننا نفكر بالضرورة بطريقة صحيحة في أحوالنا وأحوال العالم، إذ تقول تجربة السنوات السابقة إن كل معرفة هي نسبية، وهي مشروطة بواقع معاش ولحظة محددة، فاليقين عدو الحقيقة، والشك الدائم بيقيننا هو العاصم الوحيد.




المصدر