أستانا.. وقطاعات تشبه غزة في سورية


حافظ قرقوط

تفتقت المواهب السياسية العالمية كلها، وما يتبعها من انتهازية وغرور ونوازع إجرامية، مع أول صرخة حرية سورية، ورأى أصحاب تلك المواهب أن يجربوا إبداعهم الاستثنائي على اللحم الآدمي، والجسد السوري، بمخالب مسمومة لم يعرف لها التاريخ مثيلًا.

انتهت أستانا الرابعة، وانتهى معها استعراض جديد بوجه السوريين، تلك البهرجة التي لم يحتر أصحابها في أيّ وسادة سيقدمون للسوريين، فقد نسجوا، بالتعاون والتكامل مع قادة العالم (الحر) ومنذ أن انطلقت هذه الثورة، وسائدَ لا تُعَدّ أنواعها وألوانها، جُلّها من تراب أو حجارة متناثرة تحمل الأشلاء المتبقية، وبعضها قرارات تصلح أن تكون “فنتازيا”، لا يتوقعها حتى العفاريت.

أخيرًا، قرر الروس في أستانا أنّ الهرم المركزي المتكئ على الجماجم في دمشق، يمكن أن يُرسم حوله مدارات أو دوائر لفلكه بخطوط، أعطوها تسمية بديعة، هي -منخفضة التوتر- وكلفوا خبراءهم بتوزيعها مكافآت عينية على فصائل مناطقية، أدّت دورها الاستعراضي هي الأخرى، لتنتقل إلى تأسيس مذابح اللحم (الحلال)، في وطنٍ لم يعد له في حاضرة الأمم حدود، تصلح أن تكون معبرًا لدولة، ولو بناصية علم.

خطة أستانا الروسية هي تشريح الجسد لقطاعات -خفض التوتر- لم يماثلها بتقطيع أوصالها إلا ما حدث بين الضفة وغزة في فلسطين، حيث “إسرائيل” تبسط سلطتها، وتحكم المعابر وتتحكم بأدواتها وحركاتها، وبنوعية خبز الناس ومياههم، ولها وحدها مطاراتها التي تقرر إقلاع المسافر وعودته ومهر وثائقه، ومنها تُترك حرية التعليم والخدمات الموضعية وحراسة منافذ التهريب والأنفاق، لسلطات محلية لم يُقَرر حتى اللحظة عددها.

الاتفاق ذكر أن لجانًا مشتركة ستسمي بدقة تلك المناطق، وترسم حدودها في الأيام المقبلة، وتضيف إليها من يرغب من مناطق وفصائل، وهي عبارة عن دوائر منعزلة تمامًا عن بعضها، من القنيطرة ودرعا إلى بعض ريف دمشق الشرقي، إلى بعض ريف حمص الشمالي، وبعض ريف حلب وريف اللاذقية، وبينهما إدلب.

قطاعات غزة جديدة، بإدارات محلية، لها سلطة الوصاية تتبع “دولة مركزية” يحكمها بشار الأسد؛ يمكن -بحكم الضرورة والواقعية السياسية- أن تتعاطى تلك الفصائل بسلطة الأمر الواقع بقطاعاتها، مع السلطة القائمة في دمشق مع أنها لا تعترف بها.

يتم تثبيت بقية المعابر الخارجية لتلك القطاعات، كحدود الضفة مع الأردن، وتشبه حدود قطاع غزة مع مصر، وفي تلك الحدود أنفاق؛ ومن ثمّ عمليات تفجير وإغلاق لمكافحة الإرهاب، الأمر الذي يستلزم أنفاقًا جديدة، بعضها لتهريب الطعام وبعضها للدخان، وأخرى للطلاب وبعضها للمرضى.

هذا الاتفاق ستُراجَع بنوده وتُقوّم ويُجدد الالتزام به كل ستة أشهر، وستُؤهل بعض البنى التحتية لتلهية الناس، وسيُوضع خبراء للمراقبة، وتكون منافذ أمنهم وغذاءهم وتنقلهم تابعة لأمن النظام وموظفيه.

مخطط جهنمي، يقطّع أوصال سورية إلى مناطق تناحر قادم، يشبه الصراع الذي نشأ بين حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأراح إسرائيل، وقد اتضح جزء من معالمه، بصراع الغوطة وقبله في بعض مناطق إدلب، وهناك صراع في المناطق الكردية، وتُجهّز ميليشيا درزية برعاية روسية في السويداء، وهناك حملة تصفيات وتفجيرات في درعا، تطال شخصيات، تمهد لنفوذ يتبع امتدادات عشائرية، وفي القنيطرة وريفها حصصٌ مختلفة المشارب، جاءت إليها ميليشيا حزب الله لتؤسس كياناتها قرية تلو أخرى، في الأعوام الماضية، وتصبح جاهزة لتوقيع اتفاقات غير معلنة مع إسرائيل، لحماية أشباه “اليونيفيل” في لبنان، لكن بنكهة أخرى.

هذه الخرائط ستريح الامتداد الجغرافي من منطقة وادي قرى الأسد إلى مواقع الحرس الجمهوري المطلة والمتحكمة بالعاصمة، إلى خلف منطقة المزة، حيث امتداد بساتين الرازي لتصل إلى كفر سوسة وأراضي داريا، تخترق بعض مناطق القدم التي كان النظام قد استقدم إليها أتباعه منذ عقود، وسمح لهم ببناء بيوت مخالفة، لتصل نهاياتها إلى منطقة السيدة زينب، فمنطقة قصر المؤتمرات، ليصبح طريق مطار دمشق الدولي نسخةً عن طريق مطار رفيق الحريري ببيروت، وتصبح رحمة العبور عليه وفتحه أو إغلاقه أو تفتيش السوريين المغادرين والقادمين، تابعة لأمن ميليشيا حزب الله تمامًا كما بيروت.

إنها عملية تحلل أو تفسخ للدولة، بكل ما تعنيه الكلمة، وسيتبعها مؤتمرات للسوريين، في السنوات القادمة، تشبه المؤتمرات والوساطات العربية التي عُقدت للمصالحة بين حماس وفتح، أو بين اللبنانيين على مراحل مختلفة.

هكذا كلما قال السوريون إن سقف التآمر عليهم وعلى ثورتهم ووطنهم وصل مداه، تأتي الأيادي، بلا قفازات، لتخرج دفاتر جديدة، رسمها دهاة الخبث لتقول إن هدية أخرى بانتظاركم، فيها من الدهشة ما يُثقل العقل الطبيعي عن الاستنتاج، هكذا كانت خرائط أستانا الإيرانية الروسية ومخرجاتها، وهكذا سيُمهّد لجولة جنيف القادمة سياسيًا.

لا يمكن للسوريين أن يخرجوا من هذه المتاهة، سوى ببلورة تيار سياسي وطني جامع، يمكنه صناعة الأمل، بأن السوريين قادرون على خلق فرصتهم بأيديهم.




المصدر