العدالة الانتقالية أداة أساسية لتسوية آثار النزاع في سورية


نزار أيوب

غالبًا ما يفضي الحكم الشمولي والاستبدادي الذي لا يراعي مبادئ حقوق الإنسان، وسيادة القانون، أو النزاعات المسلحة، أو الثورات، أو الاحتلال، إلى انهيار الأنظمة القانونية للدول، فتصبح عديمة الصلاحية وفاقدة للأهلية. وعادة ما تدخل البلدان ذات العلاقة، بعد زوال هذه الأسباب، في مرحلة البناء على أسس مغايرة وعادلة، حيث يحاول أبناء المجتمع المتضررين إيجادَ قواسم مشتركة فيما بينهم، سعيًا لكشف الحقيقة ومحاسبة مرتكبي الجرائم الخطيرة، وجبر الضرر وتعويض الضحايا وإعادة البناء لمستقبل مغاير، فيلجؤون إلى تحقيق هذه الأهداف وتثبيت السلم وإقرار العدل، من خلال العدالة الانتقالية.

تقوم فكرة العدالة على جملة مبادئ أساسية، منها إعمال الحقوق وإعادتها إلى أصحابها الشرعيين وكشف الحقيقة وجبر الضرر وتعويض الضحايا.  وقد جاء في  تقرير الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان أن “العدالة الانتقالية” تشمل “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركته، من تجاوزات الماضي الواسعة الناطق، بغية كفالة المساءلة، وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة”. وقد تشمل هذه الآليات القضائية وغير القضائية على السواء، محاكمة الافراد، وجبر الضرر، وتقصي الحقيقة، وإصلاح مؤسسات الدولة، أو أي شكل يدمج على نحو يدرس هذه العناصر على نحو ملائم. وهنالك من يدرج سبعة مبادئ للعدالة الانتقالية، تتمثل بمحاكمة مرتكبي الجرائم، والاعتراف بالوضع الخاص للضحايا، واحترام الحق في الحقيقة، واعتماد سياسة التنحية (العزل) بحق المتورطين بارتكاب الجرائم، ودعم البرامج الرسمية والمبادرات الشعبية لتخليد ذكرى الضحايا، ودعم الإجراءات والوسائل التقليدية والأهلية والدينية في التعاطي مع الانتهاكات السابقة، والمشاركة بالإصلاح المؤسسي لدعم سيادة القانون والحقوق الأساسية، وإقامة الحكم الرشيد (وثائق مؤتمر العدالة ما بعد النزاعات المسلحة والمحكمة الجنائية الدولية).

في جميع الأحوال، تستهدف العدالة الانتقالية تطبيق الإجراءات الكفيلة بمحاسبة مرتكبي الجرائم الخطيرة (جرائم الحرب، وجرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية)، وتجذير الإيمان بفكرة ومبادئ حقوق الإنسان لتنظيم العلاقة بين المواطن والدولة، وإنصاف الضحايا وجبر الضرر، وإصلاح أجهزة الدولة كالجيش والقضاء والشرطة وأجهزة الأمن.

سورية ومواطنوها هم ضحايا نزاع مسلح كارثي ودامٍ، نجم عنه مقتل نحو 300 ألف شخص، واختفاء عشرات الآلاف في السجون ومراكز الاحتجاز، ونزوح أكثر من ستة ملايين شخص داخل سورية، إضافة إلى خمسة ملايين شخص، باتوا لاجئين في دول الجوار وسائر أنحاء العالم، وخمسة ملايين شخص، يعيشون في مناطق محاصرة أو مناطق يصعب الوصول إليها، فضلًا عن الدمار الواسع الذي طال معظم المدن والقرى والبلدات والبنى التحتية.

سيتوقف النزاع المسلح في سورية في نهاية المطاف، وعندها سيترتب على السوريين اختيار الآليات المناسبة والأكثر فاعلية للتعامل مع الفظائع التي مزقت البلاد وأبناء المجتمع الواحد. والشيء الأكيد أن العدالة الانتقالية هي أفضل السبل للتعامل مع هذا الواقع الأليم، إلا أنها لن تفضي لوأد الجراح، وطيّ صفحة العداوات بالكامل. ولذلك، سيكون من الأجدر للسوريين الاستفادة من الجوانب الإيجابية والعملية لتجارب الشعوب الأخرى التي مرت بظروف شبيهة، وتبنت طريق العدالة الانتقالية لبناء مجتمع جديد، بعيدًا عن تقمص تجارب هذه الشعوب.

لكن المشكلة تكمن في اعتقاد الكثيرين بأن العدالة الانتقالية ليست الحل الأمثل مقارنة بالعدالة الجنائية. ولهذا التخوف ما يبرره على ضوء النتائج التي أفضت إليها عشرات التجارب في العقود السابقة، إذ تمكن مرتكبو الجرائم الخطيرة من الإفلات من العقاب في كثير من الحالات كالأرجنتين، جنوب أفريقيا، غواتيمالا، المغرب، السلفادور، تشيلي، إسبانيا، دول أوروبا الشرقية، لبنان وغيرها. وهذا الاعتقاد سيتعزز أكثر في حال تمكن مرتكبو الجرائم في سورية من الإفلات من العقاب، في سياق أي عملية محتملة للعدالة الانتقالية.

وسيكون من المهم توافر الالتزام السياسي على صعيد سورية لتحقيق المساءلة والبحث عن الحقيقة والإصلاحات المؤسسية، ومنح تعويضات للضحايا. وبالنظر إلى أن هناك عدة احتمالات بأن النظام لن يسقط تمامًا، تكمن مسؤولية منظمات المجتمع المدني السورية والمعارضة السياسية في الوقت الحاضر في التمهيد للتوعية بأهمية وضرورة عملية العدالة الانتقالية بكل جوانبها، وفي مقدمتها مساءلة المجرمين. وفي المحصلة، لا يتعين تنحية مشروع العدالة الانتقالية جانبًا نتيجة استمرار النزاع وخوف الكثيرين -سلطة ومعارضة- من تعرضهم إلى المحاسبة عن الأفعال والجرائم التي ارتكبوها، فقد أثبتت التجارب الأخرى أن العدالة لا يمكن أن تتحقق حتى بعد مرور سنوات من ارتكاب الفظائع.

من المهم أيضًا عدم التسرع للحصول على نتائج فورية، بل إعطاء الوقت الكافي وتمكين الشعب والمؤسسات الوطنية ومنظمات المجتمع المدني من المشاركة، في وضع استراتيجية للعدالة الانتقالية، تأخذ في الحسبان واقعَ البلاد. أما وضع توقعات غير واقعية والشروع فورًا بتحقيق العدالة الانتقالية من دون استراتيجية شاملة فلن يحقق المنافع المرجوة، وسيفضي إلى إلحاق الضرر بالعملية برمتها.

تتطلب تعقيدات الحالة السورية من جرّاء المآسي والجرائم والدمار التي تسبب فيها النزاع اتخاذ إجراءات على مختلف المستويات ووفق استراتيجية شاملة، من أجل سياسة فاعلة لإنصاف الضحايا، وإعادة بناء البلد على أسس ديمقراطية وسيادة القانون، بدءًا بالمحاكمة الجنائية للمجرمين، والبحث عن الحقيقة، وجبر الضرر، وتعويض الضحايا، والإصلاحات المؤسسية. وقد لا يعني ذلك أنه يمكن تفعيل كافة هذه الآليات في آنٍ واحدة. فبعض هذه العمليات، مثل المحاكمة الجنائية للمجرمين أو الإصلاحات المؤسسية، ربما سيتطلب وقتًا أطول وبذل جهد كبير في التشاور وإشراك أوسع عدد ممكن من السوريين للخروج بسياسة سورية محلية، وأن يُعاد البناء تحت قيادة سورية، تكون قادرة على بناء عملية وطنية حقيقية.

لكن هذا لا ينفي مشاركة المجتمع الدولي بحماية السلم ودعم عملية العدالة الانتقالية في سورية. ولذلك، فسيكون من المفيد الاستعانة ببعثة حفظ سلامٍ تابعةٍ للأمم المتحدة، وبمحكمة الجنايات الدولية لضمان محاكمة عادلة لكل شخصٍ يثبت ضلوعه في ارتكاب جرائم شديدة الخطورة (جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية). وإذا كان من المهم أن نؤكد مرة أخرى أن عملية العدالة الانتقالية ينبغي أن تكون سورية، فمن الضروري التأكيد أيضًا على الحاجة إلى الدعم الدولي لهذه العملية، فبعد سنوات من المجازر والدمار، سيكون من الصعب أن تقتصر إعادة البناء -ماديًا ومعنويًا- على السوريين وحدهم.




المصدر