أحمد م أحمد، والبقية تأتي…


إبراهيم الزيدي

لم يكن بول أوستر يرجم بالغيب علمًا، ليعرف أن صوته العربي يحمل اسم أحمد م أحمد، ولم يدر تشارلز سيميك أن كلماته ستكون تميمة الشاعر السوريّ في رحلته مع الترجمة. مذ ذاك وأحمد م أحمد، في كل يوم يدخل حرم المكتبة العربية بصوت جديد: ديريك والكوت، ألبرتو مانغويل، مارفن هاريس، بيلي كولينز، والقائمة تطول.. ومع كل اسم من تلك الأسماء يتوغل في نفسه هاجس الكتابة أكثر، هاجس الشغب الإبداعي، هاجس الصراخ في وجه القبح الذي ينتاب العالم، وهاجس الحب الذي لا يمكن أن تستقيم الحياة من دونه. يممت شطر دار أرواد للنشر، برفقة الصديق فيصل ملحم، رئيس جمعية العاديات، وكان هذا الحوار، مع الشاعر والمترجم أحمد م أحمد.

لم (أختر) الترجمة. قصتي معها تعود إلى منتصف الثمانينيات، عندما كنتُ طالبًا في قسم اللغة الإنكليزية في جامعة دمشق. في ذلك الحين أعطاني أحد المترجمين الكبار كتابًا بالإنكليزية، يضم نماذج من القصص الهندية المختارة، من سائر ثقافات الهند، فكنتُ في أثناء قراءتها أتخيلها بالعربية، ثم ترجمتها، وعرضتها على د. فيصل دراج، فنشر معظمها في مجلة “الهدف” ومجلات أخرى. بعد ذلك تجرأتُ وترجمت مما كان يصلني من منشورات شحيحة، وبقيتُ كذلك حتى 1993، سنة تأسيس دار النشر، لأتفرغ لإدارتها، ثم جاء السفر إلى الولايات المتحدة، وهناك، لم أتجرأ على فتح كتاب إنكليزي، طوال الفترة التي أمضيتها من دون ترجمة أو حتى قراءة (15 عامًا)، لتأتي زيارة صديقي المزمن خالد خليفة إلى أميركا، وهناك أبدى استياءه الشديد، بل العنيف، من ابتعادي عن الكتابة والترجمة، فوعدته بأنني سأجرب، وكانت البداية الجديدة مع ترجمة (العالم لا ينتهي) لـ تشارلز سيميك، وحفّزتني ترجمته على ارتكاب الكتابة من جديد، بعد مجموعتي القصصية القديمة “جمجمة الوقت”، المكتوبة في بداية الثمانينيات، وقد نُشرت أول مرة سنة 1993 في لبنان، بسبب عدم موافقة الرقابة السورية على نشرها في سورية؛ على الرغم من أنني كنت أمتلك دارًا للنشر. ضحكتُ حينذاك بحزن، أنا الناشر الذي ينشر للجميع ولا يحق له أن ينشر لنفسه!

بعد (التحفيز) الذي تلقيته من ترجمتي لـ (العالم لا ينتهي)، آمنتُ بأن الترجمة تعيد إليّ لغتي المضيَّعة، وتأخذ بيدي إلى أفق جديد، فترجمتُ لدار الآداب رواية بول أوستر (رجل في الظلام)، ومنذ ذلك الحين لم ألتقط أنفاسي، ولم أعد أتذكر الأعمال التي ترجمتها، وكثير منها لمّا يُنشر بعد.

هناك أعمال لا أختارها، بعضها فرضته ضرورة (استكمال مشروع)، كترجمة شعراء أميركيين لا أحبهم، لمجرد تعريف القارئ العربي بلوحة الشعر الأميركي المعاصر؛ وبعضها فرضه (احتراف) الترجمة كمصدر للعيش. وأما حين أختار، فإني أتّجه إلى الكتب التي تغني ذائقتي بتقاليد جديدة، كاختياري لـ “سيميك” الأميركي، وديريك والكوت الكاريبي في الشعر، وفي الفكر والنقد أحببتُ ألبرتو مانغويل، في كتابيه اللذين صدرت ترجمتي لهما، عن دار الساقي، “مع بورخيس” و”المكتبة في الليل”؛ وقد شعرتُ بعد ترجمتي للثاني، بأنني قرأتُ مكتبة. ومن الغريب، أنني أهوى ترجمة كتب الأنثروبولوجيا، من دون أن يؤثر ذلك على ترجماتي الشعرية، وكتابتي، بل إنه يثريها.

 

أحب الكتب التي تعلّمني، تلك التي تتحداني بصعوبة لغتها وعوالمها وحجومها، الكتب التي يتقطّر منها الفكر العالي والفن الرفيع. أحب ترجمة الشعر، وأتمتع به، وفي معظم الأحيان لا أرسل مادة شعرية مترجمة للنشر، ما لم أصل إلى مرحلة السُّكر في أثناء قراءتها العربية، وفي ذلك أنا راضٍ عن معظم ترجماتي الشعرية التي اخترتها.

أفهم أن هناك DNA للمؤلِّف الأصلي، وDNA للمترجم، وبقدر ما يتعارف حمضاهما النوويان يكون النص المترجَم خلاقًا. قلتُ في لقاء سابق: “أعتبر معظم ما ترجمتُه جزءًا من تكويني، أعطيته وأعطاني، ونسغ كلٍّ منّا يجري في نصّ الآخر”.

وللخيانة الذهبية، والألماسية أحيانًا، أن تُحيل النصَّ الأصليَّ تُحفةً في العربية، في ما لو تجرأ المترجم على اختزال ثمان كلمات بالإنكليزية، إلى مفردة عربية واحدة هي (وَجْد)، كما فعلتُ في إحدى القصائد، وقد عدتُ إليها عشرات المرات عودةَ المتشكك، فوجدتُ أنني لم أستطع استبدالها، وأن (إخلاصي) للأصل إنما هو (خيانة) للقارئ العربي.

في إحدى ترجماتي، سألني المترجم المعلِّم ثائر ديب، لماذا ترجمتَ هنا كلمة zero بـ “زيرو” وليس بـ “صِفْر”؟ فقلتُ له: لأنها، ببساطة، في هذا السياق، لا بد أن تكون زيرو، هكذا تقول حساسيتي للنص الأصلي.

هناك (عدّةٌ) جاهزة، مكتملة، تولد أو تتربى مع المترجم، أهم أدواتها الثقافة التي يبرز دورها لدى ترجمة الفكر والنقد، فقراءاتي في الأنثروبولوجيا سهّلت ترجمتي لكتاب مارفن هاريس (مقدسات ومحرمات وحروب) ولكتاب ألبرتو مانغويل (المكتبة في الليل)، ويسّرت الحساسية ترجمتي لـديريك والكوت وبول أوستر، على سبيل المثال، وفعلتْ الموهبة فعلها في ترجمة أكثر من عمل لـتشارلز سيميك. وللديناميكية مكان بالغ الأهمية في جراب هذه العدة، من حيث القابلية على التلوّن مع أصوات وتلوّنات النصّ الواحد، والتنقل بين عوالمه وطبقاته الدلالية. ثمة تلك القابلية التي تؤهل المترجم للقفز، في شهر واحد، ما بين ترجمة نصوص شعرية عالية وكتاب يبحث في أصول الثقافات.

في معظم ترجماتي، حاولتُ تحقيق المعادلة شبه المستحيلة التي توفّق ما بين أقصى الدقة، وإعادة إنتاج نص عربيّ مكتمل. وأدّعي أنني نجحتُ مع سيميك في ذلك، ومع آخرين اضطررتُ لبعض الارتكاب والخيانة إخلاصًا للنصّين، الإنكليزي والعربي، وبالتالي، إخلاصًا للكاتب والمترجم.

أزيد، في الشعر على وجه الخصوص، يجب انتزاع النص الأصلي من منظومته اللغوية الأصلية وتقديم نصّ ذي منظومة لغوية موازية في اللغة المترجَم إليها، منظومة تتوخّى العدة سالفة الذكر. ولأنني قلما قرأتُ ترجمة شعرية موفقة، أنصح القارئ أن يختار العمل الإبداعي الذي ترجمه أديب، وأن يركن إلى الكتاب الفكري والنقدي الذي ترجمه مثقف رصين ومشهود له.

ولذلك تبرّعت بمعظم مكتبتي المترجَمة إلى الآخرين.

هناك عقبات ذات طبيعة ثقافية، وأخرى لها علاقة بأسماء الموجودات، والأكثر إحراجًا هو العثور على المصطلح الدقيق الذي لا يُحدث اختلاطًا مع مفردات عربية، فيحيل إلى ما لا يقصده الكاتب، ككلمة (gender) التي لو ترجمناها بـ (جنس) لأخذت القارئ العربي إلى (sex). هناك عقبات تتعلق بعادات يومية في أميركا وأوروبا، لم تدخل ضمن تقاليدنا حتى اليوم، كأن تصحب كلبك ليقضي حاجته في الخلاء، بالإنكليزية يقولون: (to walk a dog)، ولو قلنا بالعربية “إخراج الكلب”، أو (تمشية الكلب) لما استطعنا الوصول إلى المعنى الحقيقي، فنلجأ إلى استخدام جملة طويلة تصيب النص العربي بالترهل، خصوصًا في الشعر.

يحضر المحرَّم العربي في ترجمة كلمات يومية دارجة في الثقافة الأميركية، مثل كلمات الشتيمة ذات الطبيعة الجنسية، فنلجأ لترجمة (fuck) بكلمة ساذجة هي “تبًّا”. ونتلاعب بشتائم ضد رموز دينية كي لا (تخدش) عقائد القراء العرب.

هناك أزمة حادة تتعلق بالمصطلح. ويعود ذلك إلى أن العرب ليسوا منتجيّ فكر، وإلى أن اللغة العربية وقعت ضحية حزام العفّة الذي فرضه المقدَّس عليها، فمنعها من التوالد والتجدد؛ بل من طرح خلاياها الميتة واستبدالها بأخرى حيّة. وللحديث عن (قصور) اللغة العربية أمام اللغات الحية مقام آخر.

لستُ متأكدًا من أني صاحب (تجربة شعرية)، لكنني متأكد من أنني وُلدتُ مُصابًا بعاهة الرهافة. نشأتُ مسكونًا بالأصوات والأخيلة والصور، أدمنتُ رائحة المطر الأول في حي الرمل الطرطوسي، وعبق زهر الليمون، وطعم البرتقال اليافاوي، وربما طعم الحرمان منه، ومشهد البحر بكل تقلباته. عانيت من الاكتئاب الخريفي طوال حياتي، ضحكتُ قليلًا وبكيتُ كثيرًا، وصلتُ الفتوّةَ خجولًا من لباسي المرقّع، حلمتُ بامتلاك دراجة في طفولتي، أكثر مما حلمتُ بأنثى في مراهقتي، كنتُ -ولا أزال- ضعيف الثقة بالنفس، نتيجة الباقة التي أورثني إياها والديّ الطيبين المذعورين أبدًا، إضافة إلى السلطة السياسية. تمردتُ مبكرًا على العادات والأديان والأفكار الجاهزة، وآمنتُ بأن العالم حركة وزهوٌ وذبول، وبأن لا ثبات في شيء، فانعكس ذلك في تململي وضيقي من القوالب، فلم أكرر نفسي إلا قليلًا، وكنت أخلع أثوابي وجلدي. أتذكر أن التعري والاستحمام تحت وابل المطر على رمال الشط الطرطوسي كان يطهّرني، وحين تغيّرت المدينة ولم أعد أستطيع الاستحمام تحت مطرها، أصبحتُ شخصًا وسخًا، فناديتُ الماء.. الماء! وأذكر أن التيقظ المبكر للجنس، لفتيات جيلي، والكبت المطبق، أنتج كائنًا رغبويًا، مسكونًا بما لا يُقال من الشغف، الوجد، الذوبان في الأنثى؛ وفي علاقتي مع المرأة أتحول إلى (كبسولة) تلج دمها، حاملةً جنوني ورغبتي وخوفي من الفقد، ومن اتساع الكون والرؤيا. في الجنس أنا أوديبيّ محموم، لم تكن أمي جميلة، تركتُ ثدييها مبكرًا، لأعوّض بنهود حبيباتي العديدات وهنَّ، مع كل جميلات الأرض، أمهاتي اللواتي أرغب بالعودة إليهن، ولا أرتوي.

كان الفقدُ أخي الثالث، أو كلبي الدائم، وربما كنتُ أنا كلبه (أكرّر وأجترُّ نفسي ههنا)، كنا نتبادل النباح في الفجر الظالم فنُخرس الديكة، وفي المساء نعوصُ حزينين مقهورين. علّقتُ صورة الفقد على الحائط مقشور الطلاء، لعقنا معًا قاع طنجرة البرغل، تشممّنا الفقرَ في ثنايا المنزل والحارات والحياة. لم يمت الفقد في نفسي، إنما تكثّف وتحوّل هو الآخر إلى كبسولة في دمي؛ يعوي بين حين وآخر، فأذرف نصًا مقهورًا حينًا، وآخر شبقًا، وثالثًا تمورُ في تضاعيفه مراثيَّ المخنوقةَ.

في كل كلمة أعلاه ثمة سيل من التداعيات والذكريات. حبل الذاكرة طويل، أعلاه في أكبر ثقوب الكون السوداء، وأدناه سلفي القديم ذو الذيل، وربما البروتين والحمض الأميني الأولان، مع الصعقة الكهربائية التي انفلتُ إثرها في الغمر الأول.

منذ ذلك الحين وأنا أرى. اتسعت حدقتاي لأحداق الأسلاف الخائفة، ثم للرومانس الأول، ثم للشَعيرة والأضاحي، ثم لقضبان الـمُعتقَد، ثم لرحلة البشريّ في الضحالة والرياء، قطعانًا قطعانًا، تحت سياط الكهنوت الذكوري، فبدأتِ الحروب والمجازر، وبدأتُ القول.

في بداية قولي كنتُ حكواتيًا، بالكاد لامس جورَ السلطة الزمنية ومؤسساتها التلفيقية وأحزابها الكذابة. أصبتُ بجرَب الأيديولوجيا فخلعتها، تكدستْ طبقات الألم الجمعي في ذاكرتي، قرب نافذتها التي تطلّ على صور هذا الكوكب العذب، قرأتُ قليلًا، وكنت كلما قرأتُ قلتُ إني لـمّا أجده بعد، لم أجد الكتابَ الذي يخز الدخيلة أو يسفح فيها الغبطات، باستثناء ما تركه دويستويفسكي وكافكا وإليوت وكوليريدج وفوكنر وبروست. أُصبتُ بداء الجزالة، فنقرت لغتي على غرائز الآخرين وغرائزي أنا. قلت منذ فترة عن تلك المرحلة: (كنتُ في ترف اللغة لأنه لا أمَّ لي)، أي لا حصيلة ثقافة كافية، ولذلك كنت ألجأ إلى الجزالة.

مع مجيء المقتلة السورية، أغمضتُ عينيّ، تحللتُ منّي، و”أختاي الكبيرتان لا وليس/ أمسكتا بيدي، أنا الأعمى/ ومضينا لننثر الجزالات في البحر/ ونضحك.” بدأتُ البكاء، وكتابة النصّ، الذي لا أعرف إن كان شعرًا، أم مجرد هذيان.

هناك سنوات خصاء مطبق امتدت منذ 1993 إلى 2010 – سبع عشرة سنة من الضحالة والتصحر والبلاهة، كانت تلك سنواتي في دار النشر وفي أميركا، خلالها لم أستطع كتابة سطرٍ واحد ذي جدوى. لا أدّعي امتلاكي تجربة يُعتد بها، لم أكتمل في شيء إلا في إدراكي حجمَ قصوري وعمق ندمي، لأنني لم أقرأ ولم أستمر في الكتابة لكي تكتمل أدواتي.

تزامنت العودة إلى الكتابة مع أولى قطرات الدم في سورية، أحسستُ بأنني ضئيل تجاه ما يعتمل من ألم في داخلي، فكان الألمُ هو الكتاب الذي انتظرتُ قراءته، لكي أُخرِجَ الصرخة المخنوقة في داخلي، الصرخة التي تقول إن الإنسان حيوان مشوَّه، والثقافات روث في أضرحة، والمدعو أ. م. أ. خائن إن لم ينضُ عنه هوياته ليتماهى في الألم الجمعيّ، منذ القتيل الأول، وحتى آخر كلب انطبق بابٌ على ذيله. أصبحت لغتي قاسية، وداخلي رهيفًا. في الحرب كانت تصطك أسناني لإدراكي حجم النفاق الذي رافقها، وكانت تبكيني أغنية. اتّسعتْ رؤياي وتعمّقت فضاقت عبارتي. كنتُ أكتب فأرى أن سطوري لم ترقَ بعدُ إلى مستوى المجزرة المستمرة بحقّ الشعب السوريّ.

أعادتني الترجمة إلى الكتابة، وجعلتني أعتدّ بعوالمنا مقارنة بعوالم الشعر الأميركي، لدينا من الصور والأخيلة أكثر مما لدى الشاعر الأميركي، و(الإرث) العميق الذي لا نلمسه بشكل مباشر، حاضر بقوة لدينا حين الكتابة، كما أن تحديث النص الشعري يُعدّ من هموم الشاعر العربي الأولى. أعادت سنوات الاغتراب الأميركي لدي الشغف باللغة والتراث العربي، فرافقتني كتب عربية عديدة، منها ديوان المتنبي ورحلة ابن بطوطة وكتب لمحي الدين ابن عربي وأبي نواس، وكنت أطّلع بشكل يومي على ما تيسر من الكتابة العربية على شبكة الإنترنت.

من الشعر الأميركي اكتسبتُ بدايةً الجرأة على الدخول في تقنيات جديدة، ثم تلوّنتُ أكثر، وفي نهاية المطاف أودتْ بي تلك التقنيات إلى أن يشبهني نصي وينطق بأمزجتي وجنوني وحزني وهوسي، فتراه متوترًا محمومًا أحيانًا، وأحيانًا سكونيًا هامدًا كأفعى ابتلعت فيلًا، وفي أمزجة نصية أخرى، تشبه كتابتي، يغدو بئرًا ناضبة مليئة بألف لون من الأفاعي.

ومن أهم تأثيرات الشعر الأميركي، أنني تخلّصتُ من الادّعاء والصنعة. فتحتُ كلّ أبوابي ونوافذي. طوّعتُ المفردة الناشزة والمصطلح العلمي، وأحيانًا الكلمة الإنكليزية، لتدخل عضويًا في النصّ. تعلّمتُ من سيميك الوقاحة السريالية واجتراح كلّ العوالم، ومن بيلي كولينز السخرية المبطّنة المغلفة بثقافوية عالية، ومن أوستر (كشاعر) الصور الموغلة في ذهنيتها. ولم يكن الشعر الأميركي المؤثر الوحيد، بل كانت روايات فوكنر وفيليب روث وكورماك مكارثي وغور فيدال وجويس كارول أوتس. كذلك كانت كتب الأنثروبولوجيا، وأخصّ منها ما كتبه الكبير مارفن هاريس، إذ تطعّمت نصوصي بمقولات أنثروبولوجية من دون وعي مني، ومن دون أن تشكل نشازًا في سير النص. تعلمتُ أن الثقافة الكونية واحدة، وألا أعبأ بالخصوصيات الثقافية، بل اختلطت جميعًا كسائلٍ واحد -ربما- يتفصد دمًا أو عرقًا أو بصقة.

يقبع الشعر السوري في المقاعد الخلفية المهملة والمغبرة من المشهد الثقافي السوري. وعلى العرش تتربع الرواية. وربما ينطبق الأمر على بقية العالم. سوريًا، نشهد ذبول أسماء في الشعر العالي، أستثني منها أسماءً قليلة، وتنبت بالمقابل طفيليات الشعر المحكي، أو القصائد (الفيتشية) التي تنبعث منها رائحة الملابس الداخلية لأدونيس ومحمود درويش. في الشعر السوري، ثمة هذا الارتباك والتخلخل اللذان لا يسبقان ولادة القصيدة المتفردة، بل ينذران بضرورة حفر القبر.

الشاعر السوريّ، كالمواطن السوري، كائن إيديولوجي موتور بامتياز، كائن لم يستطع الفصل بين برزخ الشعر وبين عصابيته وعصبيته اللتين تتجليان في الدعوة إلى العنف والانتقام. أتحدث هنا عن الاصطفاف، وعن عودة الشاعر إلى قنّ دجاجه الطائفيّ والمذهبيّ، عن تجرّعه للمقولات الجاهزة، وازدراده طحالبَ الأيديولوجيا، وحتى الشعراء الذين أفرزتهم المؤسسة الشيوعية والبعثوية اصطفوا في نسق واحد متشابه كالرمال. هناك شعراء (كبار) لا يمكنك أن تنتشل من قصائدهم جملة شعرية أو صورة متفردة واحدة. أحدهم كتب على صفحته شيئًا عن “نسائنا العفيفات الطاهرات…”، وآخر قومجيّ كتب عن (سوريا، ستبقين قلب العروبة النابض…)، قرأتُ ذلك وفكرت بأن ألقي بنفسي من على شرفة الطابق الرابع، لكنني تراجعت من خشيتي ألا أموت.

لن أقول أسماءهم لكيلا أُستدعى إلى فرع أمنٍ، أو أتبهدل على (فيسبوك).

هذا الكم حالة مرَضية بسبب غياب الاصطفاء الواعي، أو دور النشر التي تقيّم جودة نتاج ما قبل نشره. والأهم، عدم وجود مطبوعة دورية نزيهة لمراجعة الكتب الصادرة وتقييمها.

لا وقت لدي للقراءة. أقرأ الكتب التي أترجمها، ومشاريع ترجمات قادمة، والأدب العالمي المترجَم إلى الإنكليزية. لا أقرأ بالعربية إلا ما يرفد مشروعي ويطوِّر أدائي كمترجم، بما في ذلك الكتب التراثية المنتقاة، ونصوص الأساطير، وكتب الديانات وقصائد المتصوفة والشعر العربي القديم. لا أقرأ شيئًا آخر بالعربية، كما لا أقرأ منشورات داري.

قدمت مؤسسة اتحاد الكتاب العرب السورية الغثاثة والركاكة، وما من شأنه تكريس الرديء، فأعادت ثقافة البلد عشرات السنين إلى الوراء. في حين لا تزال وزارة الثقافة، على الرغم من تراجعها، تنهض بالثقافة الجادة في سوريا. ولا أنسى بعض دور النشر الجادة التي لا تزال تعمل داخل سوريا.

كلّ صباح، حين أستيقظ في تلك البلاد البعيدة، كنت ألعنُ نفسي والساعة التي هاجرتُ فيها. لم تقدم لي البلاد البعيدة إلا إعادة اكتشافي لتجذر عشقي لسورية، وللغة العربية، ولرائحة العشب على طريق طرطوس/ صافيتا، وزهر الليمون، وقبل ذلك كلّه، الأنثى السورية.

كان الوطن حاضرًا في كل تفصيل، حتى مع صديقتي الأميركية القريبة، ومع أصدقائي السوريين هناك. أتذكر أنني حين اشتريتُ بيتًا جميلًا هناك حزنتُ، وشعرتُ بأنني سأكون أكثر سعادة لو عشتُ في غرفة سورية مساحتها أربعة أمتار مربعة. وحين اشتريت سيارة حديثة للغاية، قلت لصديقي على الهاتف، ردًا على سؤاله، إن كنتُ سعيدًا بها: لو امتلكتُ عجلةً واحدةً منها في سورية لكنت أسعد بألف مرة. بعد المقتلة السورية، لم تعد أي بقعة في العالم تغريني. أنا غريب هنا، وهناك. أنا لم أعد أنا وقد تمزق وطني خارجي، وفي داخلي أيضًا. هل بوسعي أن أختم بـ “اللعنة”!

ببساطة، لأن هذا الـ (هنا) رافقني إلى (هناك). وهناك أيقنتُ أن الحياةَ ذاكرة، والموتَ نسيان. حاولتُ الموت ولم أفلح. الموت عملية معقدة يحول دون إتمامها، القبلة الأولى والنهد الأول لامرأة سورية، خرير النبع في عمريت، صوت الموج ونقر حبات المطر، صوت أبي حين كان يقرأ القرآن، يدا وافد حيدر وسعد مقصود وهما تجبران عظام روحي حين تكسّرتُ، حتى عنين منشرة الشنبور في ظهيرات الطفولة، وتفتح زهر الرمان في دار بيت عمي، ثم طقس سرقة الرمان. كل شيء، بما في ذلك رائحة البحر الممزوجة بالمجارير التي طالما استجديتها في رحلات الصيد، على سواحل كارولاينا الشمالية الأطلسية. العزاء في المآتم وصوت المقرئ عبد الباسط عبد الصمد. عتبات البيوت التي أُعيد استخدامها وحيطانها التي بنيت على مراحل، ومع كل حجرة قطرة دمٍ من روح موظف مقهور قد يكون أبي.

يبقيني هنا نشيج الشعوب التي سادت، ثم أُبيدت هنا، منذ ألوف السنين، وأصوات ضحايا الحروب الظالمة تستصرخنا -نحن القادمين- أن نرأف بمقابرهم الجماعية، ونصلي عليهم صلاة الحاضر، وألا نعقر شجرة أو نقتل شاةً دون حاجة. هنا “في كلّ وهلةٍ نبعٌ وكتاب”، وهناك، لم أكتب سطرًا ذا جدوى. “هنا الأمكنة وسوى ذلك حملٌ كاذب.” و”هنا الأزمنة، مدَّ رأسك عن الشرفةِ تغرفْ عيناك بحرَ ألوان….. عُبَّ الهواء، تنفذ إلى رئتيك مليونُ آهةٍ ترتعُ في لعاب النديّات.” و”هنا الخصب، البنتُ في الأسود، الصبي المنغوليّ، وما تدحرج على خدّ الصباح الموسوم بختم الخديعة”، وأيضًا “هنا الهباء، والحياة تتجشّأ سُعاتَها، البنت في أحمرها تنحني على حذائها وتوثِق ملحَ وحدتكَ بكذبة الأزرق.” يعني أن “هنا سورية لا تني تنوسُ منذ سبعين قرنًا، بين كذبة الراعي وقرن الثور”.

هنا أنا، وأما هناك فلم أكن، أبدًا.




المصدر