أنا لا أفهمكم أيها المثقفون الأكراد


أحمد عسيلي

يذهب الكاتب السوري، ياسين الحاج صالح، في كتابه الثقافة كسياسة، إلى أن المثقف لا يمكن أن يكون بريئًا أبدًا من العمل السياسي، وبخاصة في بيئتنا السورية (بالمعنى الثقافي للكلمة)، فكل فعل ثقافي، نقدي أو حتى إبداعي، يستلزم –بشكل أو بآخر- موقفًا ما من السلطة القائمة، سلبًا أم إيجابًا أم مواربة.

وما أخذه على المثقفين الكرد الواقفين مع الثورة ضد الأسد -باعتبار أن المثقفين الواقفين مع الأسد، خرجوا من نطاق النقد والدراسة- هو عدم وجود إيمان راسخ حقيقي، بقيم الديمقراطية أسلوبَ حياة. وإن كنت أشير إلى الكرد، فهذا لا يعني تميز الكرد بهذه الخاصية، فهم مشتركون مع بقية الطيف الثقافي الموجود في المنطقة، العربي والتركماني وغيره، لكن ميزة الكرد هنا، هي وجود حالة تماهٍ كبير، مع واحد من أبشع دكتاتوريات المنطقة، وأشدها قبحًا وتطرفًا، وهي الحالة “البرزانية” في إقليم كردستان العراق.

سأقوم بتسليط الضوء هنا، على واقعة الروائي الكردي فرهاد بيبربال، كمدخل لنقاش حالة عامة، في واقع الثقافة الكردية. فقد تعرض هذا الناشط “المشاكس” العصيّ على التصنيف، إلى حادثة ضرب بشعة، من قِبل مسلحَين اثنين، في وسط ساحة عامة في أربيل، عاصمة إقليم كردستان العراق، من دون أن يلقى أي مساعدة من عناصر الأمن أو الشرطة، على الرغم من أن عملية الضرب والإيذاء قد استغرقت فترة زمنية طويلة نوعًا ما! وهذا واضح من خلال التقاط الصور في مكانين مختلفين، أحدهما وسط ساحة عامة، والآخر قرب أحد المحال التجارية، من دون أي تدخل رسمي أو أهلي! وهذا إن دل على شيء، فهو يدل على مدى حالة الخوف والرعب الذي وصل إليهما أهالي كردستان العراق؛ ما جعلهم يتابعون منظر ضرب رجل مسن (على فرض عدم معرفتهم بهويته ومكانته الثقافية)، من دون أن يتحركوا، وهو أمر غير مألوف في البيئة الشرقية، ولا سيّما في الكردية.

بعد انتشار فيديو الضرب هذا، شهدنا موجة استنكار كبيرة، شملت بشكل خجول عددًا من المثقفين الكرد، سواء في الإقليم أو خارجه، من دون وجود أي حراك حقيقي لنصرة هذا الكاتب! وبعد عدة أيام، أصدر رئيس إقليم كردستان أمرًا بفتح تحقيق في الحادثة، واعتقال المجرمين، لتلقى هذه الحركة ترحيبًا كبيرًا، في الوسط الثقافي الكردي، وتتحول الحادثة إلى دليل على (سعة قلب) الرئيس الرمز، وعلى طيبته ووطنيته… وانتهى الموضوع من دون أي عواقب أو تداعيات.

والسؤال هنا:

إذا كان الكرد يسعون إلى تأسيس دولة خاصة بهم، وهذا حقهم، وأناصرهم به تمامًا، فلماذا لم تدق هذه الحادثة ناقوس خطر ينبه إلى هشاشة بنية الدولة في الإقليم؟ هل من معايير الدولة أن يُضرب كاتبٌ في وسط العاصمة، دون أن يجرؤ أحدٌ من الأمن على التدخل!؟ هل من معايير الدولة أن يأمر رئيس الإقليم بالتحقيق في هذه الحادثة، متجاوزًا المحافظ ووزير داخلية الإقليم، بل وقائد شرطة المنطقة!؟

لماذا لم يجرِ تحقيق في أسباب عدم تدخل الشرطة؟

والأغرب، أن تظهر نتائج التحقيق، بأن الفاعلين لا ينتمون إلى أي تنظيم أو جهة معينة، وكأن ضرب روائي من قبل مسلحين فعلٌ فردي، لا علاقة له بمواقف هذا الناشط وآرائه، لكن الأغرب والأغرب، أن نتائج التحقيق السخيفة تلك، لم تلق أي اعتراض من قبل المثقف الكردي، المفترض به أن يكون مدافعًا عن الحريات وعن بنية الدولة أساسًا.

ربما يكون فرهاد بيربال محظوظًا، لأنه -على الأغلب- انتقد جهات متنفذة نوعًا ما في الإقليم، ولم ينتقد البرزاني نفسه، ولو أنه فعلها لانتهى به المطاف جثة هامدة في أحد أطراف العاصمة، كما حدث للشهيد زرادشت عثمان سابقًا.

وإذا كانت مشكلة ضرب فرهاد بيربال، واغتيال زرادشت عثمان، مشكلة سياسية أساسًا، مرتبطة بسياق الحكم الدكتاتوري في المنطقة، بدءًا من العراق، مرورًا بسورية ولبنان ومصر والسودان؛ فالموقف الثقافي الكردي، هو الأكثر مدعاة للتأمل والدراسة، لأن المعارضة الثقافية لتلك الجرائم التي تمس بنية المجتمع والدولة كلها، تكاد تكون معدومة، على الأقل لدى الناشطين المعروفين إعلاميًا، والذين لهم دور كبير في نقد بنية الدكتاتورية وتفكيك آلياتها، لكنها تتجاوز حالة الإقليم تمامًا، مع أنه المعني الأساس في هذا التفكيك، كونه يشكل نواة الدولة “اليوتوبيا” التي يسعى إليها هؤلاء المثقفون. بل إن طريقة البرازاني نفسه في استلام الحكم بشكل وراثي، وتجهيزه -أيضًا- لتسليم الحكم بشكل توريثي، لم تلقَ أي اعتراض أو دراسة أو تحليل لدى المثقف الكردي، وكأن الأمر من مسلمات الديمقراطية والعمل السياسي العام؟

لا أريد أن يفهم الكرد من هذا النقد، أنه تهجم عليهم، أو على حلمهم في تأسيس دولة خاصة بهم، بل هو في سياق مشاركتهم هذا الحلم، ودعمهم الكامل في تقرير المصير، بالمشاركة مع بقية أطياف المجتمع السوري. وهو موجه في سياق إيماني الكامل، بأن الديمقراطية الحقيقية، وتأسيس دولة حقيقية، بكل معنى الكلمة، تقوم على العمل المؤسساتي؛ وليس “الكاريزما” الفردية أو العائلية، هو الكفيل باستمرارية هذه الدولة، وبحفظ حق الناس المؤسسين لشريعتها وسبب وجودها.

أعتقد أن المثقفين الكرد، لديهم تقصير وتقصير كبير جدًا، في المساهمة بتأسيس هذه الدولة، من خلال السكوت عن الجرائم، ودعم الدكتاتورية في نواتها المؤسسة.




المصدر