رداء المؤامرة والغرف المظلمة


هوازن خداج

كلّ ما يحيط بنا هو مؤامرة، الحكام يتآمرون على الشعوب، الشعوب تتآمر على الأنظمة، الإسلام يتآمر على أميركا، أميركا تتآمر على العالم، كل العالم يتآمر على كل العالم.

اتخذت نظرية المؤامرة حيّزًا هامًا عند عددٍ من السياسيين والمحللين، وعلى الرغم من رفض بعضهم لها وعدّها مجرد خرافة، أيّدها آخرون وجعلوا منها حقيقة تعزو كافة الحوادث والتطورات التاريخية إلى مخطط ثابت لا فرار منه، وضعته أقلية من البشر تتآمر للسيطرة على العالم وموارده وتسخير الأكثرية لخدمتها، ومن أبرز رواد هذا الاتجاه المفكر الأمريكي “ويليام غاي كار” في كتابه “أحجار على رقعة الشطرنج” حيث حوّل البشر إلى أحجار على رقعة هذا العالم يمكن تحريكها والتلاعب بها، من قِبل لاعبين غير مرئيين، من أجل تدمير الحكومات والأديان. انطلق “كار” من انتسابه في 1911 إلى تنظيم سري في فلوريدا، واكتشافه “السر” في عام 1950 أن الحروب والثورات مجرد مؤامرات، ينفذها البشر لمصلحة فئات تقبع في الخفاء، هدفها السيطرة على موارد الشعوب وحياتهم، ولأجل هذا الهدف أسّسوا ثلاث حركات عالمية “الشيوعية والنازية والصهيونية”، وافتعلوا الحروب والثورات التي رسمت ملامح هذا العالم. نظرية المؤامرة البعيدة عن المفهوم العلمي الذي يستوجب مقولات منطقية تبنى على أسس عقلانية، فعلت فعلَتها وتركت بصماتها على أكثر من صعيد أيديولوجي، وصبغت كثيرًا من المدارس السياسية في العالم كله، ووجدت من يسوّقها مع اختلاف أسماء المتآمرين “النورانيون، الماسونية، النظام العالمي الجديد، الكائنات الفضائية التي تتحكم بالعالم…” وأهمها الماسونية التي تلاقي رواجًا في الأوساط الشعبية التي تعتقد بوجود خطة سرية لمجموعة من البشر القادرين على التأثير بمجريات الأحداث تأثيرًا خفيًا.

وجدت فكرة المؤامرة ضالتها في دول المشرق العربي أكثر من بقية دول العالم، لأسباب متعددة، منها أولًا: وجودهم في منطقة لها أهميتها الجيوستراتيجية وخصوصيتها الحضارية والدينية التاريخية التي تجعلها وجهة للأطماع الاستعمارية؛ حيث شكّل البحر الأبيض المتوسط الذي يصل الشرق بالغرب والممر الطبيعي إلى القارتين الآسيوية والأفريقية، وملتقى طرق العالم، هدفًا حيويًا للاستعمار منذ القديم. ثانيًا: وجود الكيان الإسرائيلي الذي أتى كنتيجة فعلية لمؤامرة عالمية أنتجها مؤتمر “كامبل بنرمان” الذي عُقد في لندن عام 1905 بدعوة سريّة من حزب المحافظين البريطانيين؛ بهدف إيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية إلى أطول أمد ممكن، فكانت الدعوة لقيام إسرائيل لتشكيل حاجز بشري معادٍ يمنع توحّد الشعوب. ثالثًا: اعتماد شعوب المنطقة -بشكل أو بآخر- على التفكير القدَري البعيد من التفكير الموضوعي والعلمي؛ فالإغراق في التفكير الغيبي شكّل تربة خصبة لانتشار نظرية المؤامرة وتبنّيها والبناء عليها حتى تقدّم صورة محبوكة جيدًا لكل الأمور السياسية والعسكرية والاقتصادية وحتى الاجتماعية. رابعًا: مواكبة نظرية المؤامرة للأنظمة الديكتاتورية الشمولية الحاكمة في معظم الدول العربية، لما لها من أثر في إقصاء العقل وتعطيل القدرة على التفكير والتحدّي، وإحباط أي إمكان للتغيير، كما تستخدمها الأنظمة المستبدّة حجّةً لتغطية فشلها ولمواجهة أي معارضة محتملة.

حالة العجز وانعدام القدرة على إيجاد حلّ مناسب للكوارث التي تعيشها المنطقة، حوّل فكرة المؤامرة، بتفسيرها السحري الخادع للأمور المعلّقة، إلى منطلق فكري أساسي، فمنذ اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور، وكلمة المؤامرة تحتلّ حيزًا لا يُستهان به، وتُتبنى على أنها الأساس لكل ما يحدث من ويلات وحروب، فالمؤامرة الاستعمارية الصهيونية الهادفة إلى تفتيت العالم العربي وافتعال حروب وصراعات بين شعوب المنطقة لإضعافها، وتحويلها إلى كيانات طائفية وإثنية، هي الخط العريض لكثيرٍ من القوى السياسية العربية التي توثّق فيه خطابها السياسي، وبعد مرور نحو قرن من الزمن، ما زالت مؤامرة سايكس-بيكو سارية المفعول، ولم يتصرف أحد لإفشال المخططات “التآمرية”، بل أخذت الشعوب تندمج في دورها المرسوم بدقة وتتقاتل لتكرس فكرة تقسيم المقسّم، وكأن الشعوب والدول مجرد دمى على مسرح العرائس تشدّ خيوطهم من خلف الكواليس أيدي المؤامرة الافتراضية. وهذه الفكرة، على بؤسها، لاقت رواجًا كبيرًا في ظل الربيع العربي؛ إذ عدّها البعض مؤامرة لإسقاط الدول، وليست ثورة لتغيير الأنظمة المسؤولة عن الاستبداد والتهميش والفقر والفساد الإداري والمالي المستشري وغيرها من أسباب جذرية، أُهملت لصالح تآمر فئة من الشعوب على الحكومات. وازدادت فكرة المؤامرة حضورًا مع ازدياد خطر التطرف الديني بأسماء “إسلامية”؛ فعدّها البعض صناعة خارجية، تُوظّف الآن لتدمير الدول وإنهاء ما بدأته الثورات العربية، وما هذا إلا تغاض عن المشكلة الأساسية، وهي وجود البيئة المناسبة لنمو مثل هذه الجماعات في الدول العربية والإسلامية، بغض النظر عمن يبدأ بالزرع وعمن يحصد النتائج لاحقًا. فإخضاع كل ما يحدث في المنطقة من تطورات لتفسيرات نظرية المؤامرة يؤدي إلى ضياع معالم هذه الأخطار، ويمنع من اكتشاف الأبعاد الحقيقية والفهم الصحيح للمعطيات والأسباب التي تكمن خلف ظهورها، وخاصة في العلاقات الدولية الخاضعة لما يسمى السياسة وتحقيق المصالح، تلك التي يرسمها الاستراتيجيون ومراكز الأبحاث وأجهزة الاستخبارات كخطط يجري اعتمادها وقت الحاجة، ويحظى العالم العربي بنصيب وافر من الوثائق التي ترسم النهج العام للتعامل مع دوله، إما سلميًا وفق القوانين الدولية، وإما من خلال الحرب والصراع، وكله خاضع لما يسمى السياسات الدولية التي لم تضعها قوى خارقة، وإنما وضعها بشر مثلنا تجمعهم المصالح لتنفيذ مخططاتهم.

المنطق الذي يعتمد مسلّمات المؤامرة وتوظيفها، باستمرار، في موضوعات تمسّ الدين والثقافة والهوية والتاريخ هو أقصر الطرق للتهرب من المسؤولية، واعتماد فكرة القدر الإلهي (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) ما هو إلا تقديم خدمات مجانية لخدمة مصالح وأهداف محددة. مشجب المؤامرة ناتج عن بنية العقل العربي المنغلق والرافض لفكرة النقد والاعتراف بالخطأ ومراجعة حساباته وتاريخه، فهنالك كثير من الأخطاء التي صنعناها بأيدينا، أو هي وليدة تاريخنا، ولا يمكن إحالتها إلى مجموعة من الأيدي الخفية التي تحيك رداء المؤامرة حياكةً منظمةً، وتقف وراء الأحداث الكبرى في التاريخ، وتدير السياسات العامة. وإذا كان من المعقول وجود مؤامرة، فإنها مهما كانت مدعومة استخباراتيًا واقتصاديًا وتقنيًا وإعلاميًا، يستحيل عليها النجاح من دون أن تجد تربة صالحة لنشاطها، وإن غياب التخطيط الاستراتيجي للتعامل معها والاكتفاء بمحاولة الحديث عنها وتقديم أنفسنا على أننا ضحايا لما يُعدّ من مؤامرات في غرف مظلمة هو بحدّ ذاته مؤامرة على وجودنا.




المصدر