شيِّعوا السريالية إلى مثواها الأخير


مصعب عيسى

منذ أن سقط جدار الخوف الجاثم على صدور المقهورين العرب وحلّق الهتاف مدويًا في عنان السماء يعانق الحرية المطلقة، كأنه يلتهم كل هتافات شعوب الأرض، ويود أن يزجها في فوهة الميدان ضد بطش سلطة الأمر الواقع، ومنذ أن نزف دم الشهيد الأول ليروي ميدان الحرية، جفت دموع الحبر ومصطلحات “التلطي” خلف كلمات أشبه بالشعوذة الشعرية، فمن لم يختلج حبره بدمه كان كاذبًا، ومن لم يأخذ تصاميم روايته الأدبية من وهج الشارع، فقد أمسى كهلًا خائبًا يعيش في قوقعة منعزلة لا يكترث به أحد ولا يطرب لموسيقاه أحد.

سقطت كلمات الأدب المتشعب بحكايات الخيال وإسقاطات اللامفهوم على الواقع.

لم يعد جليًا أن تداوي الواقع باللاواقع وأن تضيف للأدب عذوبة جديدة، يكفيه أنه عاش في غرفة إنعاش طويلة الأمد، وأن تعطي للموت تعريفًا موازيًا للحياة، حين تضيف رمزًا خياليًا أشبه بالطلاسم الهاربة من كتب الشعوذة الأولى، ثم يطل علينا هذا الترميز من قمقمه ويروس بأعلى فلسفته سفرًا خاصًا بنخبة النخبة. وماذا عن الذين هم دون النخبة؟!

لهذا بقي الأديب السريالي بعيدًا كل البعد عن ثقافة التأثير والتأثر في المجتمع؛ مما أفقده وظيفة المثقف العضوي صاحب الرسالة البسيطة المتشربة بروح التغيير التي تنشدها الجماهير ذات النسبة 90 في المئة. أي عشرة أضعاف نخبة النخبة.

نعم لكل شارع أدبه ومثقفوه، وشوارع الأمس المليئة بالأذن الجوية والبحرية والعسكرية والسرية، تبرر لهذا الأديب أو ذاك الفنان سرياليته المزمنة وتمترسه خلف مفاهيم الفلسفة بين الوجود واللاموجود، وبين قهر العبد وجبروت القائد المعبود، كل ذلك كان مقبولًا في ليالي الكلمة السرية والهاربة من هروات القبضة البوليسية، حين كانت قاعدة الشارع العربي قديمًا أن تكون مواليًا أو لا تكون.

أما اليوم فقد سقط الصمت المغلف بالحبر، وتعفنت فلسفة الرمز وسريالية الفكرة، وأصيبت بالكهولة البائسة، بل أبعد من ذلك، حين وقف روادها الذين طالما أغدقوا الحبر بإسهابات شعرية ونظريات ثابتة وأخرى متحولة عن فرض التغيير المجتمعي والمدني من وجهة نظر ثقافية لاواقعية، تقوم على استقطاب المفردة وتعاليها الدوني، مسافرة في خيالات العنان وميتافيزيقية الرؤية لتصل -من طريق التفافي- إلى جوهر الفكر في نقد الواقع الاجتماعي، كان جميلًا هذا الالتفاف الحبري في زمن البوليس السري، حين كان لكل فرد من المجتمع عنصر أو اثنان من رجال الأمن، ولكن ماذا بعد؟ وكيف آلت تلك الأقنعة إلى التهافت والسقوط في وحل الطائفية ومستنقع الطغيان؟

هنا يحضرني أدونيس “إمام السريالين” العرب، وكأنه يستحضر نفسه بنفسه، ويسقط من خلال إسقاطاته السريالية إلى الدرك الأسفل من النفاق والدونية المتعالية، فبعد أن سافر بحبره السري نحو نقد الأمر الواقع، بتنويريته التي تنوي تغريب الأدب العربي، قبيل ثورة الكرامة بسنوات، دار بدورته الصوفية التي أعجب بتفاصيلها نحو أقصى الظلم وانتهازية المثقف، يرقص بنخبويته المفرطة على الجثث المتفحمة والدم النازف بفعل بطش النظام، معاديًا ضميره المتصل بالأدب، ومنفصلًا عن ضميره الإنساني، أو ربما ضيّع ضميره الغائب بفعل نفاقه الشعري، حين تسلل من خلال طلاسمه رافضًا ثورة الشعب السوري، معللًا رفضه لها بخروجها من الجوامع، ولكنه لم ير مثقفي الثورة العضويين الذين نخرت عظامهم وتقيحت جلودهم في زنازين النظام دفاعًا عن هذه الثورة، بكل أشكالها وتياراتها، كيف لا وهو الذي يعدّ المفكر الراحل صادق جلال العظم ألدّ أعدائه.

يتعالى بأناه الشعرية المفرطة فوق جراح الشعب والدم المستباح مساويًا في سرياليته الساقطة -كحال كثيرين من أتباعها- بين الجلاد والضحية، ترى كيف سمحت له سرياليته أن يمتدح “لطمية” الخميني وثورته في القرن المنصرم؟!

بين كل هذه المجازر الفكرية والتداخلات الحبرية المتشربة بتناقضات وتضادات لا تفسير لها سوى المراءاة في الفهم والظهور بمظهر الأنا المتستر بغوغائية المفردة؛ لذلك حين أسقط الشارع العربي رموزَ السلطة أسقط معهم نظامًا فكريًا باليًا، لا يرتقي إلى مستوى هتافه الذي كسر كل حواجز الصمت والخوف والسكون، محدِثًا دورانًا كونيًا في تاريخ الضاد العربية، هذه الصيرورة التي أنتجت ثقافةً و أدبًا خلاقًا، يروي حكايات الشوارع وجداريات المدن ورصاص الحرية وأنين الزنزانة المظلم ونشيد الحرية الهادر، على الرغم من ظلامية المشهد في بعض الأجزاء واسوداد الأفق وعمليات السطو المرتزق التي تقوم بها ميليشيات دخيلة على المجتمع السوري من خلال دسّ أدبيات ومفاهيم جديدة لا تفضي إلا إلى المصب في بوتقة النظام الطاغي، وإعادة إحيائه بدعوات مكافحة الإرهاب؛ إلا أن شعار الثورة الأول كان اللبنة الأولى التي سيبنى عليها نظام شعري وأدبي جديد، يطيح بكل الأساليب الأدبية البالية، لأن ما يجري على الأرض هو صراع أجيال، ولا يمكن لأدب الحاضر والمستقبل أن ينمو في رواسب الماضي، كما لا يمكن للعدالة أن تنمو في بستان الديكتاتورية، لذا هيئوا الكفن وشيعوا السريالية إلى مثواها الأخير.. فإن الثورة تحتاج الى أدبٍ يليق بها.




المصدر