فيلم “آخر الرجال في حلب” وثائقي مرعب عن ابتذال الحرب الأهلية السورية


فيلم وثائقي مهم عصي على النسيان يحكي عن أمور تتطلب المشاهدة، حتى وإن كنّا نأمل عدم فهمه على الإطلاق.

 

أثناء عرض المقاطع من فيلم “فراس فياض” البطولي والذي يحمل عنوان “آخر الرجال في حلب”، كتلك الأجزاء التي تضنمت مشاهد سقوط القنابل محدثة ضوضاء وغباراً أبيض ومشاهِد أطفال سوريا الرّضع الذين يُدفَنون تحت الأنقاض، واصل ذهني العودة إلى العبارة الشهيرة التي ذكرها “كورت فونيغوت” في روايته “المسلخ رقم 5″، إنها مشاعر طفولية بسيطة لا يمكن تطويرها وإنما تكرارها وإعادة تطبيقها وحسب:

يقول فيها: “لا يوجد شيء تستطيع قوله عن المجزرة. من المفترض أن يموت الجميع، وألا تقول أي شيء البتة وألا ترغب بشيء مجدداً. بعد المجزرة من المفترض أن يصبح كل شيء هادئاً تماماً، وهذا ما يكون على الدوام، باستثناء الطيور. لكن ما الذي تقوله الطيور؟ كل ما يمكنها قوله عن المجزرة هو أشياء من قبيل “بو تي ويت”؟

 

بعد 6 أعوام من الحرب ومقتل أكثر من 250 ألف إنسان، ما الذي نستطيع قوله عن الحرب الأهلية السورية؟ ماذا كان هنالك لنقوله عنها في المقام الأول؟ نعم، يجدر بنا أن نكرر القول بأنّ الرئيس السوري بشار الأسد يسحق شعبه (بمساعدة جوية من الروس)، وأن قرار ترامب في وقت العشاء بتوجيه بعض الصواريخ إلى مطار سوري قد أخفق نوعاً ما في وقف عمليات الإبادة الجماعية، لكن ذلك مجرد كلام، وما فائدة الكلام عندما ينهار السقف فوق رأسك؟ ما نفعه عندما تتناقل مجموعة من الرجال قدماً مقطوعة فيما بينهم ليعرفوا ما إذا كانت قدم أحد أصدقائهم؟

 

إني على يقين بأنّ أحداً لا يملك إجابات لأي من هذه الأسئلة، كما يشير فيلم فياض – الذي يُعدّ وثيقة مهمة للغاية عن الحياة خلال الحرب – إلى عدم وجود أي اكتشافات عميقة وسط الأنقاض. “إنّ هذا لا يمكن أن يستوعبه العقل البشري”، هذا ما قاله أحد شخصيات فياض وهو يتنهد محاولاً أن يبدو هادئاً ويجمع شتات نفسه أثناء القيام بمهمات الإنقاذ. كما إن فيلم “آخر الرجال في حلب” الذي يقدم صورة  حقيقية عن المتطوعين في فريق القبعات البيض، وهم مجموعة تطوعية من مدنيين (عمال وطلاب وغيرهم) قاموا بأدوار مؤثرة وفعالة ليكونوا مثل فريق 911 منذ عام 2013، إن هذا الفيلم لا يتعلق كثيراً بإيجاد معنى في خضم المجزرة، بل إنه يدور أكثر حول أولئك الذين يحاولون النجاة منها.

 

وقد اندمج فياض بفريق القبعات البيض مدة عامين (وأحدث صوره من شهر أغسطس/ آب 2016)، كما إن الصورة التي غادر دياره بعد أن التقطها مرعبة بقدر توقعاتك، بل ربما تكون أكثر رعباً مما يمكنك تخليه،  لكنها إنسانية عميقة. وبينما حقق فيلمه نجاحاً كبيراً بفضل عنوانه، والذي يعرض مجموعة من رجال متنوعين رفضوا الهرب من المدينة، كان الجزء الأكبر من التركيز من نصيب شاب يسمى “خالد عمر حرة”.

خالد شخصية تحظى بالمحبة على الفور، ليس ذلك بسبب ضحكته التي ترتسم على وجهه وحسب، وليس أيضاً بسبب مناداته لبشار الأسد بـ”ابن السافلة” مراراً وتكراراً، إنما يرجع ذلك إلى طبيعته؛ فهو شاب ودود ولطيف لكنه غير متأكد مما ينبغي عليه فعله حيال الكابوس الذي ابتلع حياته، فتارة تراه يلعب كرة القدم بحماس مع أصدقائه، لتراه بعدها يهرب من الغارة الجوية مغمغماً حول موته الوشيك. كما إن عدم المبالاة التي تبدو عليه وهو يسحب طفلاً ميتاً خارج بناء منهار، والذي كان يبدو مستحيلاً، يجعل اللحظة أكثر مأساوية. وفي أكثر مشهد مؤثر في الفيلم، يخضع خالد لاستجواب لطيف من قبل أحد الأطفال الذين أنقذ حياتهم، ويحدق الطفل فيه كما لو أنه مايكل جوردان.

 

يريد جزء من خالد الهرب من وطنه والتوجه إلى تركيا مع أطفاله، ويقول: “إن أطفالنا هم المعضلة”، ويركز فياض في فيلمه على اختيار الرجال للكلمات. إنها معضلة؛ إذ ليس لدى أي من الصيدليات المتبقية في المدينة أي من الفيتامينات اللازمة لابنته التي تعاني سوء التغذية، هذا من ناحية، أما من ناحية الأخرى، يعتقد أنه مسؤول عن زراعة البذور بين الرماد وتقديم المساعدة في رعاية الجيل القادم. كما لا يتناول فيلم “آخر الرجال في حلب” هذا الصراع الداخلي الرهيب، ولا يتطرق إلى التفاصيل المتعلقة بكيفية استمرار مواطني سوريا بالعيش بأفضل طريقة ممكنة.

بدلاً من ذلك، ينغمس فياض في عذاب انتظار الموت، فهو يصور الأحداث عشوائياً بحيث من الممكن أن تكون مرتبة ترتيباً زمنياً، لافتاً النظر إلى وجود توازن غير مستقر بين الروايات غير الخيالية والشعور الغامض بالرهبة. ويتساءل أحد رجال فريق القبعات البيض بقوله: “هل يجب علينا أن نجلس ونبكي، أم ماذا؟”، وكثيراً ما نشعر بأن الفيلم يطرح علينا السؤال ذاته. وفي نهاية المطاف، يصبح كل مشهد جديد كالذي سبقه. ومع نهاية الفيلم، ترى كاميرا فياض سوريا من خلال عينيه اللتين لا تدركان ما الذي يجري حولهما مثل سمكة خالد الذهبية. بالإضافة إلى ذلك، تشير موسيقا الفيلم الحزينة والمؤرّقة، إلى جانب اعتماده المفاجئ في بعض الأحيان على الأسلوب الشعريّ، يشير ذلك إلى أن صانع الفيلم لا يشعر بالراحة تجاه الهلاك الذي يصوره ويوثقه، لكن ما الذي كان يأمل أن يجده؟

 

“آخر الرجال في حلب” فيلم مخيف يصور مقاطع متفرقة، كما أن القصة التي يعمل على خلقها تغادر الفيلم في نهاية المطاف وتقرر البقاء خلف الكواليس. لكن الفيلم في الوقت نفسه، وثائقي لا يمكن أن يُنسى وهو أساسي وضروري يتحدث عن شيء لا بد من مشاهدته ، على الرغم من أننا نحبّذ عدم فهمه.

رابط المادة الأصلي: هنا.



صدى الشام