الصحافيات السوريات تحت سيف الرقابة.. الأقلام الناعمة لم تسلم من العنف


لو أردنا الاستناد إلى معيار الربح والخسارة فإن ما خسرته الصحفيات السوريات يساوي في حالات، ويفوق في أخرى، ما خسره وضحّى به زملاؤهم الصحفيون في “مهنة المتاعب”، ذلك أن التحديات التي يواجهنها في سوريا تتنوع بين مهني واجتماعي. ففي هذا البلد المصنف على أنه الأخطر بالنسبة للعاملين في مهنة الصحافة في العالم، تتعدد الأحداث والقصص والحالات الخارجة عن المألوف.

وعلى الرغم من سيف الرقابة، وسلطان العرف الاجتماعي الذي يعيق عمل النساء، في كثيرٍ من الأحيان، في الحقل الإعلامي، غير أن التجربة السورية شهدت ظهوراً لنماذج مشرّفة من الصحافيات اللواتي نجحنَ في ترك بصمة عبر نقل ما يجري في مناطق سوريّة يصعب على الإعلام العالمي، بأدواته وصحفيّيه، الوصول إليها.

 

ظروف

ميرنا حسن، شابّة سورية تعمل كصحفية في محافظة إدلب، تحدّثت عن تجربتها “كوني فتاة، فإني أُحرم أحياناً من حضور بعض المؤتمرات أو الاجتماعات حين يكون الحضور للرجال فقط”. وتضيف ميرنا: “حتى لو سمحوا لي فلن أجد الراحة النفسية إذا كنت في وسطٍ ذكوري لا يوجد فيه فتاة غيري”.

وتعاني المرأة في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية من غيابها عن مواقع المسؤولية الإجتماعية الرسمية وذلك لاعتباراتٍ عدّة.

وتشرح ميرنا مصاعب عملها “في بعض الأحيان لا أستطيع تصوير أحداثٍ مهمة، إما بسبب بعد المسافة للوصول إلى موقع الحدث، أو لصعوبة تغطيته رغم أهميته، وفي أحيانٍ أخرى، يكون من غير المسموح للفتيات حضور بعض الأنشطة والفعاليات”.

لكن ميرنا بالمقابل تشير إلى أنّها لا تجد صعوبةً في جمع المعلومات من المصادر غالباً، بل على العكس فإنها تلقى احتراماً كونها فتاة، خصوصاً في ظل  قلّة عدد الصحفيات في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، مقارنة مع الإعلاميين الذكور. وتُستثنى من هذه “الميزة” ،التي تتمتع بها كفتاة، لقاءات الشخصيات السياسية أو العسكرية التي إما أن لا تقبَل التحدث إليها، أو ترفض الإفصاح عن المعلومات إلّا ضمن شروط.

 

نظرة المجتمع

لكن الأمر لا يتوقّف عند ظروف العمل الإعلامي وتحصيل المعلومات، بل يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، فنظرة المجتمع للفتيات اللواتي يعملن كصحافيات داخل سوريا ليست أقل وطأة وتاثيراً، فهناك صورة نمطية سلبية تحكم الصحفية الأنثى كونها تعمل في حقلٍ مخصّصٍ للذكور بحسب ما هو سائد، وتصل هذه النظرة في بعض الأحيان إلى التهديد المبطّن، والتأثير على الحياة الشخصية للفتاة العاملة في مجال الصحافة.

وفي هذا السياق توضّح ميرنا حسن، أن ” الأصعب من مشقّات العمل، هو تلك النظرة السلبية من المجتمع”، كون البيئة التي تعمل بها هي بيئة محافظة مجتمعياً ودينياَ، ولم تعتد سابقاً على عمل الفتاة في هذا المجال بالتحديد.

وبالمقابل، تتابع ميرنا، فإنهم اليوم باتوا مدركين أهمية تواجد الصحافيات في مجالات كثيرة، ولا سيما عندما يتعلق الأمر بتغطية “القضايا النسائية”، لذلك أصبحوا يتقبّلون فكرة عملها إلى حدٍّ ما مع التحفّظ على بعض تفاصيل هذا العمل.

ولا تكترث ميرنا دائماً لما يُقال عنها في محيطها عموماً، فقد سمعت الكثير من الكلام الذي يستهدف تثبيط همتها مثل “توقّفي عن العمل فنهايتك إلى منزل زوجك”، أو “عليكي ألا تستمري بالعمل لأنه في المستقبل لن يتقدم أحد لخطبتك في حال علموا بأنك تعملين في الصحافة، وتختلطين كثيراً بالرجال بحكم المهنة”. وقد يصل الأمر إلى حد  التهديدات المبطّنة كأن يُقال لها “حقّك رصاصة” وهي عبارة قد تواجهها في حال تدخّلت بأمور عسكرية حسّاسة لنقلها إلى الإعلام.

ولفتت ميرنا في الوقت ذاته إلى وجود بعض الناس الواعين بمهمّتها والذين يقومون بتشجيعها ودفعها معنوياً للاستمرار بعملها وإيصال رسالتها.

وتلخّص ميرنا أبرز المشاكل التي تعاني منها الصحفية الفتاة داخل سوريا، بعدم قدرتها على التصرّف بحرّيتها في كثيرٍ من الأحيان، والتقيّيد المجتمعي في العمل سواء كانت فتاة أو امرأة متزوجة.

 

 

أقوى من الأعباء والضغوطات

 بعيداً عن الإعلام كمهنة تبدو كالمغناطيس الذي يجتذب المشكلات بحكم طبيعتها، فإن الحالة السورية أبرزت نماذج إنسانية اجتمعت فيها تفاصيل وأشكال من المعاناة كفيلة بإيقاف أي إنسان عن إكمال دربه، نحو تحقيق طموحاته وأداء دوره المجتمعي.

سلوى عبد الرحمن، “44 عاماً”، صحفية تعمل في الداخل السوري، لكن العبء الذي تحمله على عاتقها يفوق بشكلٍ كبير ما تقاسيه قريناتها من الصحافيات الأخريات هناك، وذلك لكونها أرملة ولديها ثلاثة أطفال، لذلك فعليها أن تقوم بدور الأم والأب في المنزل، والرجل الذي يعمل ويعيل عائلته.

تقول سلوى لـ صدى الشام :” بدأت العمل في المجال الصحافي بعد نحو سبعة أشهر من سيطرة المعارضة على مدينة إدلب في شتاء 2015″. وتضيف أن السبب الذي دفعها للعمل في هذا المجال هو رغبتها بالاقتراب من حقل السياسة.

“أشعر وأنا أعمل في مجال الصحافة بأنني أؤدي مهمة إنسانية، وأحمل رسالة تجاه هذا المجتمع الذي أعيش فيه “، تتحدث سلوى مشيرةً إلى أنها قبل البدء بهذا العمل كانت بحالة نفسية سيئة، فبعد أن توفّي زوجها بشكلٍ مفاجئ، لم يعد لأولاها أي معيلٍ سواها.

وتتابع: “قبل أن أبدأ عملي كصحفية كنت أشعر أنني أعيش بلا هدف حقيقي مع أنني أملك الطموحات”، لكن وبعد انطلاقتها المهنية مع مؤسسة “حبر” شعرت سلوى بثقة عالية في تأديتها لمهامها، وذلك نتيجة تشجيع الكادر لها، لتصبح فيما بعد مدرّبة للطالبات في فنون الصحافة بجامعة إدلب.

وأمام ما عانته سلوى من ضغوطات تفوق الاحتمال على مختلف الصعد، فإن “المطبات الروتينية” في درب المهنة تهونُ أمام ما تسعى لتحقيقه.

“ليس من السهل بالنسبة لي حضور الاجتماعات والفعاليات التي لا يوجد فيها إناث”، تتحدث سلوى عن طبيعة عملها، دون أن يفوتها التنويه إلى ضرورة التوفيق بين واجباتها تجاه أولادها وعملها. وبدلاً من أن يُثني هذا الواقع سلوى عن المتابعة فإنه يزيدها شغفاً بالعمل الصحفي لتواصل السعي لتطوير وتمكين نفسها.

 

 

إحصاءات

 لعل من المفارقة أن الجهات التي تستثني الصحفيات من دخول مجالات معينة تعيق أداءهن لهذا العمل، لا تستثنيهنّ عندما تستهدفهنّ بانتهاكات مختلفة!
وقد وثق “المركز السوري للحريات الصحفية” في رابطة الصحفيين السوريين، وقوع 19 انتهاك بحق الإعلاميات والصحفيات في سوريا منذ انطلاق الثورة في منتصف آذار عام 2011، وكان من بينها مقتل 4 إعلاميات، و12 حالة اعتقال وخطف، فضلاً عن حالات جرح واعتداء بالضرب والتهديد والتعنيف، بالإضافة لممارسة ضغوطات لمنع الصحفيات من العمل في المجال الإعلامي.

وتفيد الإحصاءات التي حصلت عليها صدى الشام من المركز، بأن نظام الأسد يتحمل المسؤولية الأكبر عن الانتهاكات بحق الصحافيات، حيث ارتكب ستة انتهاكات من أصل 19، بينما كانت فصائل المعارضة مسؤولة عن ارتكاب 4 ، وكذلك الحال نفسه مع قوات الآسايش التابعة للإدارة الذاتية.

 

مغادرة نتيجة الضغوطات

المحامي محمد صطوف، الباحث في “المركز السوري للحريات الصحفية” في رابطة الصحفيين السوريين، أكد أن الصحافيات والإعلاميات السوريات يعانينَ من صعوباتٍ مختلفة في عملهن، ومن أبرزها المخاطر الأمنية والمهنية كالقصف والاعتقال وغيرها، إضافةً إلى المحاذير الاجتماعية”. حسب وصفه

وقال سطوف لـ صدى الشام: “إن هذه الأمور جميعها أثّرت سلباً وأدت إلى تراجع عدد الإناث العاملات في المجال الصحافي، حيث دفعت الضغوطات عدداً من الصحافيات إلى مغادرة سوريا بسبب وجود بعض الفصائل التي تمنع العمل الإعلامي للأنثى”، لافتاً إلى أن الأمر لا يختلف كثيراً في مناطق النظام.

وأضاف أنه لا يوجد إحصائية دقيقة حتى الآن لعدد الصحافيات في الداخل السوري، ولكن لوحظ حصول تراجع في أعدادهنَّ عما كان سابقاً بشكلٍ كبير، مشدّداً على ضرورة وجود نظام ديمقراطي وقوانين تحمي الصحفيات، وتحفظ حقوقهنَّ حتى يتمكنَّ من العمل.

وبيّن صطوف أن رابطة الصحفيين السوريين تسعى لأن تكون المظلة الحقيقية التي تضم كافة الصحفيين والصحفيات، وتعمل للمحافظة على حقوقهم والدفاع عنها، لذلك تتبع الرابطة العديد من الوسائل في حال تعرضت الصحفيات السوريات لأي مخاطر كانت، ومنها التواصل بشكل مستمر معهن، والوقوف على مشاكلهن، والتواصل مع الأطراف الأخرى على الأرض السورية بغية التنسيق وصوف اتفاقات تحمي الصحفيين بشكل عام.

 

إصرار

بعزيمة واضحة، تؤكد الصحفية ميرنا الحسن رغبتها بالاستمرار في “مهنة المتاعب”، وتقول :”أنا مقتنعة بعملي مهما كانت الضريبة، كما أني أرى أن هناك فئة كبيرة تحترم عملي وتشجّعني لأساهم في إيصال رسالتهم”.

أما زميلتها سلوى عبد الرحمن، فهي تذهب أبعد من ذلك، معتبرةً أن عملها “رسالة وليس مهنةً وحسب”، مؤكّدةً أنها تملك من المقومات ما يكفي لإيصال رسالتها بشكل حضاري.

وكما ميرنا وسلوى، هناك صحفيات أخريات بقينَ في الداخل السوري، وآثرن الاستمرار في بيئة عمل هي الأقسى بكل مفرداتها، لكن ليس على من آمنت بما تفعل.

 



صدى الشام