حافلات اليسار على يمين “الأوتوستراد” التركي


مالك داغستاني

للتقليل من أهمية نجاح الاستفتاء على التعديلات الدستورية في تركيا، سارع بعضٌ من اليساريين (بخاصة العرب) ومعهم كثيرٌ من المعارضين الآخرين لهذه التعديلات، إلى الاستشهاد بأن المدن التركية الكبرى، حيث يتركز الثقل الاقتصادي والسياسي والثقافي، إسطنبول، أنقرة، إزمير، وأنطاليا، التي تتجمع فيها أكبر رؤوس الأموال المحلية، قد قالت لا للتعديلات. وهذا برأيهم يدلّ على أن تلك التعديلات لم تحظَ بتثقيل هذه المدن التركية المركزية؛ مما يضعف نتيجة الاستفتاء، وربما يُودي ببعضٍ من شرعيته، بينما أيدت تلك التعديلات المدن التركية الهامشية (نسبيًا)، وهي مدن ما يعرف بمناطق الأناضول الأقل تطورًا. وهذا صحيح بالطبع واقعيًا، ويحتاج لوقفة تركية لتحليله ودراسة أسبابه وتأثيراته على المستقبل التركي. ولكنه، نظريًا على الأقل، لا يجب أن يكون صحيحًا وفقًا للمفاهيم والمقولات اليسارية التقليدية أو حتى المُجدِّدة، تلك المقولات التي أنتجت تاريخيًا تحليلات، طالما انحازت للهامشيين والمظلومين والفقراء، وتبنّت مصالحهم.

لنمضِ أبعد. ماذا لو جاءت نتيجة الاستفتاء التركي ضد إقرار التعديلات، بالتوزع الجغرافي نفسه؟ أي ماذا لو قالت المدن الهامشية: لا للتعديلات؟ أما كان اليساريون (من موقعهم السياسي المنتقد على طول الخط لسياسات تركيا) سيهللون للنتيجة، ولاندحار مشروع حزب العدالة والتنمية ورئيسه (الفعلي) أردوغان. وسيخلصون إلى النتيجة الأكثر انسجامًا مع المبادئ والنهج اليساري، بأن الطبقات الكادحة في المدن الفقيرة والهامشية، هي من هزمت وتصدت لمشروع أردوغان؟ كم كان من اليسير تفهم المواقف الحالية التي يتبناها هؤلاء عندما تصدر عن ممثلي اليمين، وعن المحللين السياسيين أو الاقتصاديين الليبراليين، ولكن من الصعب جدًا تفهّم أن يتبناها اليسار المنحاز تاريخيًا، وبحسب أمهات أدبيّاته، للمظلومين.

ليس من العسير الملاحظة بأن الحالة التركية (العقدة التركية) قد أربكت لغة التحليل الرصين، أحيانًا، لدى هؤلاء الماركسيين واليساريين عمومًا، وذهبت بهم (بطمأنينة يُحسدون عليها) مذاهب تحتاج لوقفة تحليلية معمقة، للتدقيق بأسباب انجراف حافلات التحليل اليساري إلى مسارات لغة طالما احتكرها اليمين المحافظ، خاصةً حين يتعلق الأمر بتركيا “العدالة والتنمية” أو حتى بمواقفهم السياسية عمومًا في الفترة الحالية. حيث خبرنا، نحن -السوريين- بشكل خاص، موقف هذا البعض اليساري من الثورة السورية خلال السنوات الست الماضية، حين أصبح الفقراء والمظلومون والمهمشون الثائرون على نظام الأسد، والذين دفعوا من دمهم في مواجهة آلته القمعية، هم رموز التخلف والرجعية والمؤامرة الخارجية بحسب تعبير هؤلاء، وبالتضاد التام مع كافة النظريات الفلسفية والنضالية اليسارية. بينما صار ضباط جيش النظام وطياروه القتلة، حماة المؤسسات الوطنية.

طبعًا كل ما سبق لا يعني، بحالٍ من الأحوال، أن موقف اليمين، وبخاصة الإسلامي العربي، هو الموقف الصائب في الحالة التركية، بما عُرف عنه من تأييدٍ أعمى لكل مواقف “العدالة والتنمية” التركي أينما اتجهت بوصلة تلك المواقف، لكن هذا الموقف للإسلام السياسي العربي التقليدي يبقى أكثر انسجامًا مع التاريخ البراغماتي لهذا التيار. وفي أي حال لم يعد من المستغرب، خاصةً في السنوات الأخيرة، أن يتقافز محللو هذا اليسار الذي كلّسته نظم الاستبداد وحالة الموات السياسي في عموم المنطقة، على حبال السياسة بحركات لا تناسب إيقاعات التاريخ اليساري. وينزلق ليتلقف مناهج في التحليل ويصل إلى نتائج طالما كان يراها معادية للتاريخ الإنساني، وللتطور البشري التاريخي المُجَدوَل بالأناقة الماركسية المعهودة.




المصدر