مهجّرون فضّلوا إكمال “التغريبة” نحو بلاد اللجوء


 

يَغلُب على معظم الذين أوصلتهم باصات التهجير إلى محافظة إدلب، الرغبة في البقاء داخل الأراضي السورية، لكن بعضهم المهجرين كان لهم وجهة نظر مختلفة ففضلوا المضي قدماً في “التغريبة”، وإكمال مسلسل التهجير بكامل حلقاته، ليحطوا الرحال خارج سوريا حاملين معهم أحلاماً ورغبة بطيّ صفحة التهجير وكوابيسها.

ويعتقد كثير من هؤلاء بضرورة العودة إلى الوطن لكن بعد تحقيق أحلامهم، ومما لا شك فيه أن الحصار الذي عاشوه في بلداتهم ومدنهم داخل سوريا كان السبب الأول في تفجير هذه الرغبة، ليعملوا فور خروجهم من “كهف” الحصار على السفر أبعد من المتوقع والشائع بالنسبة لركّاب باصات “التسوية”.

 

تجربة لا تقدر بثمن

أثناء ركوبه الباص عادت الذاكرة بمحمد إلى أيامه المرّة التي قضاها محاصراً في مدينة داريا القريبة من العاصمة دمشق، هناك في بقعة صغيرة لا تتجاوز 2 كم مربعًا كان محمد أحد العالقين الذين فقدوا أبسط المقومات لحياة يمكن أن يعيشها الإنسان.

لم يكمل محمد تعليمه مكتفياً بالحصول على شهادة التعليم الأساسي، لكنه يعتقد أن التجربة التي خاضها في داريا أكسبته خبرات عملية لا تقدر بثمن.

محمد غادر داريا ضمن اتفاق المصالحة مع نهاية آب من العام الماضي مُتوجهاً نحو إدلب، ومنها غادر عن طريق “التهريب” نحو الأراضي التركية، حيث بدأ عمله هناك.

” لا يمكنني تذكر تفاصيل الحصار المؤلمة دون أن تدمع عيناي” يتحدث محمد بصوته الخافت، مضيفاً لـ صدى الشام ” أكلنا كل ما يمكن أن يؤكل، ولشهور طويلة كان كل أملنا ألا نموت من الجوع، كان الحصار صعباً جداً،  لم يكن لدينا خبز لأكثر من سنة، الحليب والبيض والجبن و الفاكهة والكثير من أنواع الخضراوات مسحناها من قاموس حياتنا اليومية”.

اليوم لم يعد البحث عن الرغيف هو ما يهمّ محمد “ما أعمل له اليوم هو الحصول على حياة كريمة هنا في تركيا، أعيش مع مجموعة من الأصدقاء، ونتشارك في دفع إيجار المنزل والطعام وسائر الخدمات، أسعى الآن لادخار المال للبدء بمشروع يجعلني أنسى ظروف الحصار التي عشتها في داريا”.

ويضيف “عندما تحين الفرصة سأعود بالتأكيد، لكنني سأبذل جهدي هنا في تركيا كي أكون إنساناً ناجحاً.. لن أحتاج إلى أحد بالتأكيد. أريد من الناس أن تحتاجني أن أكون أنا من يساعدهم لا أن أنتظر في طابور المنظمات الإنسانية في إدلب وغيرها … لذلك أنا هنا .. وهذا ما تعلمته من 4 سنوات حصار قضيتها في بلدي”.

 

لا بد من السفر

فور مغادرته وادي بردى بريف دمشق كان حسن مستعداً لتنفيذ قرار كان قد اتخذه مسبقاً، يقول حسن لـ صدى الشام إن أسباباً كثيرة أبعدته عن فكرة الاستقرار في محافظة إدلب، بل وعلى أي أرض سوريّة بشكل عام،  “لم أستطع تحمل فكرة العيش خارج بيتي والبلدة التي نشأت فيها، كل ما هو سوري يذكرني بتلك الواقعة الأليمة حين صرت في عداد المهجرين”.

أسباب أخرى تحدث عنها حسن جعلت فكرة اللجوء إلى تركيا أمراً لا بد منه أمام الخيارات التي بحثها في قرارة نفسه خلال فترة التهجير، “المعيشة في سوريا صعبة ومكلفة لأن دخل الفرد قليل جداً بالمقارنة مع حجم الإنفاق وأسعار السوق، ماذا أعمل هنا؟ مهنتي هي بخ الموبيليا، ولا يمكن العمل في هذا المجال في إدلب”.

كان أحد إخوة حسن بانتظاره في تركيا، ليصبح بإمكانه الحصول على مأوى فور وصوله إلى الجارة الشمالية، إضافة لتوفر فرص عمل في إحدى الولايات التركية الصناعية، لهذه الأسباب لم يبقَ حسن أكثر من ثلاثة أسابيع في إدلب ليصل في نهاية المطاف إلى الريحانية؛ أول ولاية تركية على الحدود مع سوريا.

يمارس حسن اليوم مهنته التي يتقنها كما كان الحال في سنوات ما قبل الثورة، ويعرب عن سعادته  “أنا مرتاح جداً للحياة هنا، الأمان و المال والبعد عن الألم الذي كنا نعيشه في سوريا وعلى الأخص خلال أشهر الحصار في وادي بردى ..في كثير من الأحيان أقول لنفسي : كان خياراً موفقاً”.

 

على الطريق

كما أن ركوب باصات التهجير بعد معارك طاحنة ومعاناة مريرة جراء الحصار تمثل تجارب قاسية، فإن طريق اللجوء من سوريا إلى تركيا ومن ثم إلى أوروبا ليس بالمسألة السهلة.

ربما ابتسم الحظ لمحمد وحسن اللذين عبرا الحدود السورية – التركية في ساعات قصيرة ليصلا آمنين إلى الهدف المنشود، لكن شادي، ابن مدينة داريا، والذي كانت له قصة مماثلة لزميليه في التهجير، عانى الأمرَين في رحلة اللجوء الذي تلا تجربة الحصار.

يقول شادي لـ صدى الشام “لا يمكن اجتياز الحدود بين البلدين سوى عن طريق التهريب الذي بات مهنة لها أسعارها وأصحابها وسماسرتها”، ويضيف “في البداية حاولت الهروب بصحبة أحد المهربين مقابل 200 دولار دفعتها له لكن الجندرما التركية قبضت علينا وتعرضنا للضرب والتحقيق والاحتجاز لساعات”.

وتشدد تركيا إجراءاتها على الحدود مع سوريا منعاً لعمليات التسلل نحو أراضيها، ما يضع عقبة كبيرة أمام طالبي اللجوء والسوريين الباحثين عن الأمان أو عن فرص عمل وطموحات أكبر.

شادي الذي حاول التسلل أكثر من سبع مرات نجح أخيراً في العبور “كانت فرحة لا توصف، استأجرت بيتاً مع صديق لي في ولاية تركية، وقد وجدت فرصة عمل منذ اليوم الأول لوصولي”.

لا ينوي شادي العودة قريباً إلى سوريا لكنه يتطلع لجني بعض المال حتى يؤسس مشروعاً يعينه على الزواج وبناء بيت في بلد اللجوء، “وعندما تنحل الأزمة … سأعود ..حتماً”، يقول شادي.

ويتابع “ناهيك عن شهور الحصار التي عشتها في بلدي، فقد قضيت ساعات صعبة للغاية خلال عبوري إلى الأراضي التركية،  في إحدى المرات احتجزوني أكثر من 10 ساعات، ثم انهالوا علينا بالضرب، الحمد لله أنني وصلت إلى هنا حتى أنسى مرارة الحرب”.

 

حلم دافئ

يحاول الناشط الصحفي خالد (اسم مستعار) إيجاد نقاط مشتركة بين حياته في ظل الحصار على مدينة معضمية الشام بين عامي 2013 و 2016 وبين معيشته الحالية في أثينا باليونان لكن دون جدوى.

“كل شيء هنا مؤمن وبالمجان، عندما أتذكر الحصار لا يمكنني تخيل أنني أنا الذي كنت أبحث عن رغيف الخبز في المعضمية في يوم من الأيام”.

يعمل خالد ناشطاً في مجال الإعلام وتوثيق الشهداء، ويقول إنه لن يتوقف عن العمل لخدمة الثورة حتى ولو بقي في أوروبا،  “أسعى من لجوئي إلى أثينا وربما إلى ألمانيا أو النروج قريباً إلى الحصول على جواز سفر أوروبي، بهذه الوثيقة سيكون بمقدوري السفر حيثما أردت وعندما أشعر أن الأوضاع في بلدي أوشكت على الحل سأعود في أول ساعة”.

يواظب خالد حالياً على تعلم الإنكليزية، وهو لم يشعر بفرق كبير مع اليونانيين في حياته الاجتماعية، “إنهم بسطاء وطيبون إضافة لكونهم شعب فقير، ما يفرق بيننا فقط هو تعصبهم الشديد لدينهم.. هذه النقطة فقط هي ما يقلقني”.

عدا عن ذلك، يجد خالد متعة كبيرة في تجاذب أطراف الحديث مع من حوله من اليونانيين واللاجئين السوريين، لكنه – كما يقول – يشعر بغصة جراء تركه لبلده الذي يناضل من أجل الحرية “أحياناً أشعر بالحزن والضيق وأتهم نفسي بالهروب من الحرب.. لكني أعود لأقول لنفسي إن لي ماضٍ يشهد على عملي المتفاني في خدمة الثورة، وإلى اليوم أنا مستمر في العمل لأجل الثورة في بلدي، ولن أترك ذلك في يوم من الأيام”.

بالمحصلة فإن جميع من قابلناهم تأقلموا بنسب معينة مع الحياة الاجتماعية والاقتصادية لبلد اللجوء،  كما أن الجميع لا يزالون يحنّون إلى سوريا آملين في أي وقت أن تتحسن الظروف في وطنهم ليعودوا بعد أن حققوا ما أرادوا في بلدان اللجوء.



صدى الشام