الدولة بين: الليبرالية والاشتراكية


حبيب عيسى

(1)

 بينما كان دعاة مناهضة الرأسمالية في أوروبا، ودعاة الثورة عليها ينتظرون أن يتم إفقار الطبقة العمالية في أوروبا إلى درجة لا تعود فيها تجد ما تخسره، فتصنع الثورة على القلة الرأسمالية المُستغلة في أوروبا، كما بشرّ بذلك كارل ماركس، كانت الرأسمالية الأوروبية قد عقدت اتفاق جنتلمان مع بعضها البعض على تقديم الرشا إلى الطبقة العمالية، وغير العمالية في أوروبا، ونقل الصراع إلى خارج أوروبا على أرض، وبدماء الشعوب في أمريكا الجنوبية، وأفريقيا، وآسيا، وبالتالي امتصاص ثروات الشعوب، لتدجين “الطبقة العمالية” في أوروبا، وهكذا، فإن أدولف هتلر استحق الرجم لأنه لم يحترم ذلك الاتفاق، ونقل الصراع إلى قلب أوروبا البيضاء،  وأصبح رمزًا للوحشية، والنازية، والهمجية، أما ما ارتكبته جيوش ومرتزقة السلطات الرأسمالية الفرنسية، والإنجليزية، والأميركية بحق شعوب الأرض وأممها من أول حرب الأفيون في الصين، إلى نقل شعوب إفريقيا في أقفاص العبودية، إلى استعمار ونهب وتجزئة الأرض العربية، و تهجير اليهود الأوروبيين إلى فلسطين، وتهجير العرب من فلسطين، واختلاق مشكلات باكستان، والهند، واقتسام أفريقيا، وجنوب شرق آسيا، وإلقاء القنابل الذرية على هيروشيما، وناغازاكي، وحصد الشعب الفيتنامي بالقنابل والرصاص، والتخطيط والتآمر لارتكاب المجازر بحق الشعوب والأمم التي تبدي مقاومة، أو يُحتمل أن تفعل، وتسليط  وتدريب عملاء مُدربين للتحكم بالشعوب في أرجاء الأرض… كل هذا الإجرام بحق الإنسانية ليس إلا مجرد دروس من المتحضرين الأوروبيين في التربية، والتحضر لشعوب العالم المتخلفة بهدف تربيتها، وإعدادها لتكون جديرة بالحياة في عصر يسوده سادة أوروبا الرأسماليين. وهكذا كان على شعوب الأرض وأممها أن تسمع دروسًا بالغة التأثير عن وحشية نازية أدولف هتلر، وفاشية موسيليني، وأن تصفق بحرارة لإن الحلفاء تمكنوا منهما، ومن ألمانيا وإيطاليا. أي، باختصار شديد، كان على تلك الشعوب والأمم أن تصفق لجلاديها، ومصاصي دماء أبنائها. المهم، ها هي أوروبا الآن، وقد أُتُخمت بثروات شعوب الأرض، وصلت إلى مرحلة من التطور لم تعد الدولة القومية تلبي حاجاتها، وهي تتجه الآن بخطوات حثيثة لإقامة “الدولة القارية” دولة أوروبا الموحدة، بينما ما يزال النظام الإمبريالي الدولي يرى أن المساس بتجزئة الأمة العربية، مثلًا، إلى 22 دولة ذات “سيادة” إضافة إلى دولة الصهيونية “إسرائيل” هو مساس بالأمن القومي لدولة الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الأمم الأوروبية الحرة، وهو مساس بالنظام الدولي الجديد الذى ولد بعد مخاض صعب -كما قال رئيس دولة إعادة بناء الاتحاد السوفييتي- وهو تهديد للسلم العالمي وعدوان على المشروعية الدولية كما يردد آخرون، فإلى أي شرعية يمكن إسناد تلك الأحكام الواضحة والبالغة الدلالة التي يُطلقها دهاقنة هذا النظام الدولي المختل، والفاسد، والعنصري، والمستغل؟ وهل يصلح ما يصدر عنه من نظريات وقوانين أن يكون نموذجًا يُحتذى من قبل الإنسانية؟

(2)

لقد أردنا، بأكبر قدر من الوضوح، أن نزيل الخلط (غير البريء) بين تكوين الأمة كطور اجتماعي يتم بفعل عوامل مُحدّدة تتعلق بتطور الجماعات البشرية من مرحلة إلى أخرى في الزمان، وبين الرأسمالية كطور اقتصادي يتم بفعل عوامل مُحددّة تتعلق بتطور النظام الربوي من مرحلة إلى أخرى في الزمان. ونرى أنه لا بد من الإشارة إلى أن محاولات أخرى غير بريئة تمت وتتم للخلط بين الأمة والأديان؛ فقد تتعدد الأديان في الأمة الواحدة، وقد تنتمي عدة أمم إلى عقيدة دينية واحدة. وقد كانت دولة (النواة) للتكوين القومي للأمة العربية في (المدينة)، دولة متعددة الأديان، وقد ورد في دستورها (الصحيفة) أنهم على الرغم من ذلك أمة على من عاداهم، وقد “تكوّن أول مرة في تلك البقاع (شعب) تتعدد فيه علاقات الانتماء إلى الدين، ولكن يتوحد الناس فيه، مع اختلاف الدين، في علاقة انتماء جديدة. علاقة انتماء إلى أرض مشتركة. علاقة انتماء إلى (وطن)، فترقى العلاقة الجديدة بالناس جميعًا (أهل الصحيفة) إلى ما فوق الطور القبلي، وهناك استقر الناس في وطنهم، وعلى أرضهم، ولم يعودوا إلى العلاقات القبلية مرة أخرى قط. وهناك سيكون جزاء محاولة نقض العلاقة الجديدة بالوطن، والعودة إلى العلاقات القبلية، النفي من أرض الوطن. ولقد استحق الجزاء بنو قنينقاع، وبنو النضير، واستحقه بنو قريظة؛ من جرّاء خيانتهم جميعًا في معارك الدفاع المشترك عن الوطن المشترك (المدينة)”(1)

على عكس ذلك حاول البابا “أربان الثاني” أن يُعطي الانتماء الديني والانتماء القومي مضمونًا واحدًا، وأن لكل دين أرضًا، ولكل أرض دينًا. فحينما اشتعلت الحروب على امتداد الأرض الأوروبية بين أمراء الإقطاع، كلٌّ يُريد أن يُزيد مساحة إقطاعه، فقال لهم البابا أربان: “إن الأرض التي تقيمون عليها لا تكاد تُنتج ما يكفي غذاء للفلاحين، وهذا هو السبب في اقتتالكم، فانطلقوا إلى الأماكن المقدسة، وهناك ستكون ممالك الشرق جميعًا بين أيديكم، فاقتسموها”، لم يكن للدين المسيحي شأن بما يقتتل من أجله أمراء الإقطاع في أوروبا، فقد كانوا جميعًا مسيحيين، ولم يكن لما نصح به البابا شأن بالمسيحية دين المحبة والسلام، وإنما كان للمؤسسة الكنسية التي يرأسها البابا شأن بالأرض، فقد كانت شريكة في ريعها، وهكذا وحدّ المعتدون بين مضمون الانتماء إلى المسيحية، ومضمون الانتماء إلى أرض فلسطين، وبدأت الحروب (الصليبية). وما توقفت إلا حينما استطاع العرب، مسلمين، ومسيحيين أن يقنعوا الأوروبيين، بالأسلوب المناسب، بألا جدوى من الخلط بين الانتماء إلى العقيدة، والانتماء إلى الأرض، فتحررت الأرض العربية…”(2).

مرة ثانية، واستنادًا إلى الأسس ذاتها التي نُظمت بموجبها الحملة الصليبية، حدث ما يتشابه مع ذلك “فحينما أراد المتخلفوّن من يهود أوروبا أن يخرجوا من عزلتهم القبلية “الجيتو” وأرادت الرأسمالية النامية في أوروبا أن تُسخّرهم عازلًا بشريًا يحول دون وحدة الأمة العربية، ويحرس مصالح الإمبريالية، فصاغوا جميعًا ما يُعرف (بالصهيونية)، وليست الصهيونية إلا فكرة مُتخلفّة تخلف سكان “الجيتو” تقول (الصهيونية): “إن كل من توحدوا دينًا لهم حق في أن يتوحدوا وطنًا ودولة. وهكذا اختار الرأسماليون الأوروبيون والصهاينة من اليهود أرض فلسطين اختيارًا “صليبيًا”، وبدأ الصراع العربي-الصهيوني، وما يزال مستمرًا، ولن يتوقف إلا حينما يستطيع العرب أن يُقنعوا الصهاينة، بالأسلوب المناسب، بألا جدوى من الخلط بين الانتماء إلى العقيدة الدينية، والانتماء إلى الأرض”(3)

(3)

هكذا توضّح لنا أحداث التاريخ البعيد، والقريب أن محاولة الخلط بين الانتماء الديني، والانتماء القومي تستهدف مصالح خاصة، لا علاقة لها لا بالانتماء الديني، ولا بالانتماء القومي، فـ “لأي إنسان مُميزّ غير مُكره أن يختار الإسلام دينًا، أو أن يختار دينًا غيره، أو أن يكفر بكل الأديان على مسؤوليته في الدنيا والآخرة. أما العروبة فعلاقة انتماء إلى وضع تاريخي تدرك العربي منذ مولده، وتصاحبه حتى وفاته، ولو لم يكن مميزًا، ولو لم يدركها، ولو كفر بها؛ لأنه وليد تطور تاريخي”(4)

قضية أخرى لا بد من إثارتها في هذا المجال، وهي محاولات الخلط بين القومية والعنصرية، بين الأمة والعرقية، فالنظرية العرقية لتكوين الأمم سقطت منذ زمن، لكن ما زال إلى الآن من يتشبّث بها لا لإن هناك علاقة بين العنصرية والأمة، ولكن لتحقيق مآرب خاصة قد تكون شيئًا من الامتياز لمجموعة بشرية مُعينة، والمثل الصارخ على ذلك، والمتبقي من العصور السالفة هو “الحركة الصهيونية”، و”شعب الله المختار”.

إن العنصرية خاصية قبلية (فالجماعة العنصرية هي مجموعة أفراد لهم أصل متشابه، أو أن الأصل المتشابه هو الذي يؤسس هذه الجماعة، بينما الجماعة القومية هي أوسع من ذلك؛ فلقيام الرابطة القومية لا يكفي أن تتوفر قرابة عنصرية، باعتبار أن القومية يُمكن لها أن تفهم حتى من دون قرابة عنصرية. إن القومية تقتضي أساسًا جماعة صلبة لها حياة، وتاريخ مُشتركين حتى، ولو بفقدان أصل مشترك، وتظهر بما يُسمى وعي قومي، أي الشعور بالانتماء للقومية نفسها، أو للثقافة القومية نفسها، ولهذا تُعدّ القوميات حصيلة مجتمع متطور”(5)

هذا الرأي “لراد ومير لوكيل” أستاذ القانون العام في جامعة بلغراد، يُعبّر عن تطور مهم في مفهوم القومية، والأمة لدى الذين خلطوا بين القومية والعنصرية، وهذا الموضوع هو موضع مراجعة مهمة على مستوى الفكر الإنساني “التقدمي” خاصة، فمن الناحية الموضوعية، إن المفهوم القومي الإنساني للأمة يتناقض تمامًا مع التعصب العنصري. ذلك أن المجموعة البشرية (شعوبًا وقبائل) عندما تكتمل مقومات تكونها القومي كأمة تكون قد نبذت فكرة العنصرية، والعدوان؛ لإن الأمة محددة الأرض (الوطن)، ومحددة البشر (الشعب)، وهذا يعني اعترافًا بالآخر.

(4)

فكما أن للأمة حقوقها الخاصة، ومجالها الخاص، للأمم المجاورة، والبعيدة تلك الحقوق ذاتها، وأي مساس بها عدوان لا بدّ أن يُزال، ولو بالقوة، والتاريخ البشري القريب والبعيد حافل بالشهود على فشل سيطرة “دولة ـ أمة” ما، على أمة أخرى، أو على مجموعة من الأمم، والعدوان في حال حدوثه يُنسب إلى النظام الحاكم لتلك الدولة المعتدية الذي قد تُسيّره أفكار، ومصالح تُنسب إلى القبلية السابقة على التكوين القومي للأمة، ذلك أن فكرة الغزو هي من صلب التكوين القبلي، حيث القبيلة لا تختص بأرض معينة، وبالتالي لا تعترف للآخرين بهذا الاختصاص، وهذا يعني أن لها الحق في الغزو والتنقل في الأرض الواسعة بحثًا عن الرزق، وتلبية الحاجات، ففي القبيلة القوة وحدها هي التي تُحدّد الحقوق، وهكذا يُحدثنا التاريخ القريب والبعيد عن قبائل زحفت من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق، حيث كان ذلك مُمكنًا إلى أن تجد قوة أخرى تضع حدًا لزحفها، أو تلاحق فلولها المهزومة إلى حيث المنشأ، وقد أوضحنا في الفقرتين السابقتين أن النظام الرأسمالي الذي قاد الأوروبيين إلى غزو العالم المعاصر، هو تطوير عصري للنظام (الربوي) القبلي، وبالتالي يحمل سماته، ولا يحمل سمات التكوين القومي للأمم. كما أن محاولة استخدام ستار (الدين) لمثل ذلك الغزو لا يغير من طبيعته القبيلة شيئًا، سواء تمثل ذلك بالغزو الأوروبي (الصليبي) للعرب، أو بالغزو القبلي (العثماني) للعرب، أو محاولة الغزو الفارسي للعرب، مهما كانت العناوين، تحرير أو استرداد أو فتح. فهو غزو قبلي لأمة مكتملة التكوين هي الأمة العربية، وما عدا ذلك مجرد تفاصيل.

هكذا، ومن حيث النتيجة، نستطيع القول إن الأمة هي مستند الحق في تأسيس الدولة التي يجب أن تتطابق مع حدود الأمة (الأرض)، و (البشر) لا تتعدى ذلك، لإن ذلك سيكون عدوانًا على أمم أخرى، ولا تنتقص منه لأن ذلك سيكون عدوانًا على الأمة ذاتها يعني وضع حواجز (قانونية)، و (موضوعية) تعيق مشاركة (الشعب) في حل مشكلاته الواحدة التي لا يمكن حلها حلًا صحيحًا إلا بمشاركة الشعب كله في حلها، ويعني وضع حواجز قانونية وموضوعية، بين أجزاء من الشعب، وبين الثروات المادية للأمة (مصادر الإنتاج) التي يجب أن تخضع للاستفادة الشاملة منها، لمصلحة الشعب جميعه .

(5)

وبما أن الأمة العربية تُمثلّ الآن المثل الصارخ على الاعتداء (على الأمة) بعدد كبير من الدول وأشباه الدول، لا بد للفقه القانوني العربي أن يتصدى لهذه المسألة بأكبر قدر من الجدية، وأن يُقدّم مساهمة مهمة، ليس على الصعيد القومي للأمة العربية، وحسب، وإنما على الصعيد الإنساني، وبالفعل، وفي غمرة الصراع بين التجزئة، وبين الوحدة القومية، بدأ الفقه القانوني والاجتماعي العربي يتجه بالبحث العلمي ليختط طريق فرز الاختلاطات التي رافقت الترجمات الحرفية التي نُقلت إلى العربية في أغلب الأحيان مفصولة عن ظروفها، وعن توضيح تلك الظروف، والملابسات التي رافقتها.

يقول د. عصمت سيف الدولة: “الأمة هي تكوين اجتماعي من شعب معين، وأرض معينة خاصة، ومشتركة فيما بينه. ويضيف هذا إلى مفهوم السيادة مضمونًا جديدًا هو المشاركة التاريخية فيما بين الأجيال المتعاقبة من الشعب، وننتهي إلى عدم شرعية تنازل الشعب، أي جيل من الشعب، عن السيادة على الأرض، وأن شرعية الدولة ذاتها منوطة باتفاق نطاقها البشري، والإقليمي مع التكوين التاريخي للمجتمع؛ فعندما نكون في مواجهة أمة فإن وحدة الوجود القومي تُحتّم وحدة الدولة فيها، بمعنى أن الدولة القومية التي تشمل الشعب والوطن كما هما محددان تاريخيًا هي وحدها التي تُجسّد سيادة الشعب على وطنه القومي، ومشاركته التاريخية فيه. ولا بد لها أن تكون شاملة البشر، والأرض جميعًا لتكون دولة قومية مكتملة السيادة، إذ عندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الشعب يكون هذا الجزء قد حُرم من ممارسة سيادته على وطنه. وعندما يخرج عن نطاقها أي جزء من الوطن يكون الشعب قد حُرم من ممارسة سيادته على ذلك الجزء من الوطن. (6)

نخلص من ذلك كله إلى أن التكوين القومي للأمة هو مستند الحق لشرعية تكوين (تأسيس) الدولة في هذا العصر، وأن تأسيس عدة دول على أرض أمة واحدة مكتملة التكوين هو تأسيس يفتقد مستنده الشرعي، وهو عدوان يستعيض عن الجيوش الغازية (بالدول اللامشروعة) وأن للأمة المُعتدى عليها أن تقاوم هذا العدوان، وأن كافة أشكال المقاومة مشروعة، وأن المنظومة القانونية لتلك “الدول” غير مُلزمة لأبناء الأمة المعتدى عليها، خاصة فيما يتعلق منها بالنظام العام، وتقييد حرية الأفراد في التنقل في أرجاء وطن الأمة، ومنعهم من تسخير إمكانات وطنهم وأمتهم المادية، والبشرية، ومصادر الإنتاج كافة لتحقيق التقدم الحضاري، والحياة بما يملكون، وبما يبذلون من جهد دون عدوان على حقوقهم من غيرهم، أو انتقاص منها، أو تنازل عنها.

 

هوامش، ومراجع:

(1) د. عصمت سيف الدولة-العروبة والاسلام-مصدر سابق-صفحة (63).

(2 و3) المصدر السابق-صفحة (36-37-38).

(4) المصدر السابق-صفحة (24).

(5) راد ومير لوكيل-الدولة والحق-مصدر سابق-صفحة (134).

(6) د. عصمت سيف الدولة-نظرية الثورة العربية-الكتاب الثالث-صفحة (145).




المصدر