نكبة المنكوبين


نزار السهلي

منذ تسعة وستين عامًا، أصبح الخامس عشر من أيار/ مايو، في ذاكرة الفلسطينيين، المعبّرَ الأقوى لفعل الكارثة، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية منتصف أربعينيات القرن الماضي، وقد أرّخ المفكر اللبناني قسطنطين زريق، في عام 1948، مصطلح النكبة في كتابه “معنى النكبة” الصادر في آب/ أغسطس من العام نفسه، أي بعد ثلاثة أشهر من إتمام عملية التهجير، وهو الاسم الذي يُطلقه الفلسطينيون على مأساة تهجيرهم من مدنهم وقراهم وتدمير معظم معالم مجتمعهم السياسي والاقتصادي والحضري، بالإضافة إلى عشرات المجازر التي ارتبطت بعام النكبة، وأدّت إلى طرد السكان الأصليين من ديارهم إلى الأردن والعراق ولبنان ومصر والضفة وقطاع غزة، ووصل الآلاف منهم إلى سورية، ومكّنهم الاحتضان المجتمعي والاقتصادي والسياسي في التطور الطبيعي لبلورة الهوية الوطنية التي عاشت بدورها تجربة التشويه ومحاولات الانقضاض عليها والاستخدام البشع لشعاراتها على مدار خمسة عقود.

في عام 2011 مع بداية الثورة السورية، جُرِّد مصطلح النكبة من أصحابه الأصليين ليقتسمه مع من احتضنهم، قبل تسعة وستين عام، وليزيد عليه علامات أكثر قسوة ومأسوية في إمكان الاحتضان الجديد، وبات المنكوبون الجدد مع القدامى يتقاسمون سردية نكبة، لا بواكي لها في القرن الحادي والعشرين، لتحمل أسئلة وجيهة يطرحها واقع النكبة في أمسها وحاضرها علاوة على الشبه المتطابق تمامًا، في إحداث النكبة التي هي، حسب تعريف المؤرخ زريق، تدمير لمعظم معالم المجتمع المدني والحضري، وإن النسخة السورية للنكبة يضاف إليها العامل الوحشي الممثل بطبيعة السلطة الحاكمة التي تطابقت في سلوكها الإجرامي مع منفذ النكبة الأولى وأجهزت على المنكوبين وإخوتهم، بإبادة عائلات بالكامل، وتهجير قرى كاملة في أرياف المدن السورية، وتدمير لحواضر المجتمع، وتهجير لملايين السكان، وإعدام الآلاف تحت التعذيب وإخفاء عشرات الآلاف، إضافة إلى الاستعانة بعصابات تفسد حيثما مرت، وكل هذا بحماية دولة “عظمى” ودعمها لتنفيذ جرائم لا تنتهي.

مقارنة النكبة، قبل سبعة عقود، من حيث حجم اللاجئين والضحايا وطريقة تنفيذ المجازر، مع حسابات العصر الحالي تفضي إلى يقين بتفوق مخزٍ في جريمة نكبة السوريين، وإضعاف أخلاقي للنكبة الأولى، ولم تحظَ نكبة الفلسطينيين الثانية في سورية، وبالتالي نكبة السوريين أنفسهم، بالاهتمام المدوي الذي كانت عليه النكبة الأولى، قبل سبعة عقود، على الرغم من تطابق الفصول وتفوق بعضها في الجريمة والتنفيذ واختراق بعض جوانبها للمنظومة الأخلاقية والإنسانية التي شيّدت على مدار سنوات النكبة، على العكس شيدت منابر ضخمة لإنكار النكبة ومباركتها أحيانًا واعتبار جموع اللاجئين والمسفوحين عصابات وإرهابيين؛ الأمر الذي خلّف دمارًا أخلاقيًا عند مناصري السفاح، شهدناه في عمليات التصفية لنساء وأطفال وشيوخ في المدن والبلدات المنكوبة في سورية.

إذا كان المؤرخ قسطنطين زريق نجح قبل سبعة عقود في إدخال مفهوم النكبة  للدلالة على حجم مأساة المنكوبين، فإن سفاح الشعب السوري استطاع أن يُخرجه من الذاكرة، بتجسيد فصولها المغرقة في الإثنية والمذهبية والعرقية، على أن المفارقة لبعض مؤرخي نكبة اليوم يذكروننا ببعض خطابات المؤسسين للفكر الصهيوني وجهدهم الحثيث لحماية رواية “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” التي يقابلها  شعار “سورية أنظف وأنحف بدون هؤلاء”، ومقابل الاستيطان عمليات تهجير واقتلاع للسكان وتغيير ديموغرافي، أضف إلى ذلك، من قبيل المقارنة والمفارقة، أن مجازر النكبة الفلسطينية وما سبقها منذ عام 1938 على أيدي عصابات الهاغانا، والبلماخ، وشتيرن، وتسيحي، وصولًا إلى مجازر صبرا وشاتيلا وقانا وضحايا العدوان الإسرائيلي في انتفاضتي 1987 و2000، وانتهاءً بالعدوان على غزة بين الأعوام 2008 و2014، بلغ مجموع  الضحايا من المنكوبين 13379 حسب الأرقام الرسمية لإحصاء المجازر وعدد الضحايا، ففي الوقت الذي توثق فيه الحركة الوطنية الفلسطينية استشهاد 210 أسيرًا منذ العام 1967 نتيجة الإهمال الطبي والتعرض للتعذيب في المعتقلات الإسرائيلية، يوثق أيضًا، في ستة أعوام، مقتل ما لا يقل عن 1600 معتقل فلسطيني تحت التعذيب، وهو رقم غير نهائي لوجود 13492 معتقلًا مصيرهم مجهول، بينما في ستة أعوام من عمر النكبة السورية بلغ عدد ضحايا المجازر على أيدي النظام وعصاباته 17200 ضحية مشمولين بمجزرة خان شيخون الأخيرة، الأرقام توثّق هنا المجازر، ولا نتحدث عن مئات الآلاف الذين قضوا بفعل البراميل المتفجرة واستخدام السلاح المحرم، ولا عن المليون جريح وملايين المهجرين، أرقام تفوق تلك التي كانت سببًا في نكبة الفلسطينيين، وسلوك مماثل في الوحشية ومتفوق في جوانب عدة، لأن رواية المنكوبين في سورية لم تكتمل فصولها بعد، جزء كبير منها ما زال طي الكتمان، لم ينجُ من يُخبر عن أهوال وفظائع تستمر.

استطاع المنكوبون الأوائل حمل كواشين الديار ومفاتيحها، وحفظ كل تل ورابية وبئر وشجرة، وقُدّر لهم صوغ وعي جماعي لمواجهة الفكر الصهيوني، كان لشوارع مخيماتهم في اللجوء أسماء للقرى والمدن والشهداء، كواشين الأرض احترقت في المخيمات بفعل البراميل، ومفاتيح الديار صهرتها قذائف الطائرات، وزنازين الممانعة تفيض بنسل اللاجئين، وأشقائهم في النكبة لم يُقدر لهم أن يحملوا مفاتيح الديار ولا كواشين الأرض لأنهم باتوا تحت نكبتها.




المصدر