الحمامة في “مكانٍ ضيِّقٍ” حيث يُسجَن الشاعر


مالك ونوس

قال أحد الكتَّاب الهولنديين إنه كان جالسًا في مقهىً باريسي، يقرأ جريدة فرنسيةً، عندما وقع على إحدى مقالاتها التي تتحدث عن شاعرٍ وجَّهَ رسالةً من سجنه إلى رئيس إحدى الدول. وقال إنه أصيب بالذهول، حين علم أن شاعرًا يقبع في سجنٍ ما في هذا العالم، وتساءل يومها: “لماذا يُسجن الشاعر؟”. ربما يكون هذا التساؤل، وعدم معرفة الغرب بسريالية العيش على ضفّتنا، ونظرة مواطنيه إلينا، من خلال عدسة واقعهم وفهمهم، هو ما دفع كلاً من ناشر ومترجمة ديوان “حمامة مطلقة الجناحين” للشاعر السوري فرج بيرقدار، إلى تغيير عنوان الترجمة الإيطالية للديوان ليصبح: “مكانٌ ضيقٌ“.

فقد ارتأت دار النشر الإيطالية، نوتِّي تيمبو (Nottetempo) التي تتخذ من ميلانو مقراً لها، وهي التي أصدرت الترجمة الإيطالية للديوان، في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، تغييرَ عنوانه؛ لأن القائمين على الدار، والمترجمة إيلينا كيتي يرونَ أن تلك العناوين لم تعد تستهوي القارئ الإيطالي، والغربي عمومًا. فالشعر -برأيهم- فيه بعض المباشرة، حيث خَبِرَ الشاعر كم هي ضيِّقةٌ أمكنتنا، ويعرف كم من الصعب إطلاق أجنحتنا داخلها. لكن القارئ الغربي الذي قد يستغرب أن يخرج شعرٌ للحياة من أقبيةٍ، قد لا يخرج منها الشاعر، لا يعرف أن الشعراء قاوموا الجلادينَ بالشعر، كما لا يعرف أن الأرواحَ في هذا الشرق ترفرفُ بكامل اتساع أجنحتها، في وجه الجلاد الذي يقول الشاعرُ عنه “إن الزنزانة ليست أضيق/ من قبره”.

كان صدور هذه الترجمة، ضمن سلسلة “شعراء” التي تصدرها الدار منذ سنة 2013، وصدر منها، حتى الآن، 24 عنوانًا لشعراء من جنسيات مختلفة، فرصةً أخرى لإعادة قراءة الديوان من جديد، بعد صدوره باللغة العربية في بيروت، سنة 1997. وكان، كذلك، فرصةً للتمعُّن أكثر في الجدران التي تحمل آثار الدماء القديمة، وهي تختلط بآثار الدماء الجديدة، عبر شريطٍ من المآسي، لا يذكِّرك بشيءٍ سوى أنك ما زلت تعيش في هذا المكان المسمى “شرق المتوسط”، “الآن هنا”، وقبل الآن، وربما في قادم السنين، في أي مكان من هذا الشرق الذي يقابلُ الشعراءُ عسَسَه، بأجنحةٍ ترفرف حتى في أضيق الأماكن.

لكن، هل القصائد آنيةٌ حتى تُتَرجَم وتُعاد طباعتها من جديدٍ، بعد عشرين سنة؟ نعم هي كذلك، ويا للأسف! فهل تغير شيء في حياتنا منذ كتبها الشاعر في السجون التي توزَّع عليها؟ لم يتغير شيء، لا بل ساءت الأمور، ومع الحرب ازداد ذلك السوء، حيث أمام هذا الموت اليومي، يغدو الكلام عن أوضاع الحريات ولهاث الجميع وراء لقمة العيش ترفًا. موتٌ، قد لا يفهم أحدنا سيادته المشهد لسنواتٍ سبع، إلا حين يقرأ عن جذره في هذه القصائد. ومن هنا فإن ترجمة القصائد فرصةٌ كي يعرف القارئ الغربي لماذا ضجَّت جهاتُ الأرض الأربع، في السنتين الأخيرتين، بقوافل اللاجئين السوريين، وغيرهم. شعوبٌ تعبرُ للمرة الأولى، منذ الحرب العالمية الثانية، وحروب فلسطين، البلدانَ والقارات، مشيًا على الأقدام، للركون إلى سلامِ سقفٍ لا تنهمر القذائف عليه.

وبينما تثير القارئَ الغربيَّ قدرةُ الشاعر على الكتابة في أقسى ظروف الاعتقال والتعذيب، تثيره -أيضًا- حقيقة تهريب قصائد هذه المجموعة، مكتوبةً على أوراق السجائر، خارج السجن، ووصولها إلى المطبعة، بينما الشاعر ما زال قابعًا في سجنه. وهو إنجازٌ، قد لا يفهم هذا القارئ أنه أداةٌ من أدوات التمسك بالحياة داخل السجن، “آلية دفاعية لأحافظ على توازني”، كما يقول الشاعر، وسبيل المعتقل لمقاومة اليأس. وإن استغرب الكاتب الهولندي مسألة إرسال الشاعر بيرقدار إلى السجن بسبب الكتابة، تستغرب الصحفيَّة في جريدة إل مانيفيستو (Il Manifesto) الإيطالية، فرانشيسكا ديل فيكّيو، مسألة منع الأوراق والأقلام عن المعتقلين، وعن الشعراء والكتّاب منهم بالذات.

وحين استغربت ما قاله لها الشاعر: “في البداية كنتُ أكتب الشعر شفويًا أو على الذاكرة”، وأخبرها أن زملاءه في السجن كانوا يعينونه في حفظه عن ظهر قلبٍ، سألته إن كان يوافقها أن هذه الآلية تشبه الشعر الشفهي أيام الجاهلية. يجيب بيرقدار، في المقابلة التي أجرتها معه الصحِيفة المذكورة ونشرت، في 12 يناير/ كانون الثاني الماضي، إنه درَّب ذاكرته على الحفظ، وكانت لمساعدة المُعتقلين الآخرين في تذكُّر القصائد وحفظها أهميةً خاصةً، إذ إن ذلك جعلها تجربةً، أهم ما فيها، هو الحس الجماعي بأهمية الكلمة وضرورة وصولها إلى الخارج.

إضافة إلى تغييرها عنوان الكتاب، غيَّرت المترجمة عناوين بعض القصائد، وهو ما يندرج ضمن سياق الفهم والتقبل نفسه؛ حيث إن عنوان قصيدة “اغتيالٌ”، أصبح “موتٌ”، بينما عنوان قصيدة “قصيدة الحزن” تغيَّر إلى “قصيدة الألم”؛ إذ يبدو أنها رأت في القصيدة ألمًا أكثر مما فيها من حزنٍ، حيث الحزن الذي يسود كل المكان أكثر إيلامًا، فلا تسهل مداراته، ومنها قوله:

“قلتُ: يا أماهُ/ من أكثر حزنًا بيننا/ أنتِ/ أم النهرُ/ أم البرقُ الذي بين يديّْ؟”. فتجيب الأم بما يفيد أن الحزن استبدَّ بنا منذ الأزل: “يا بُنيّْ/ بدأ الحزن بنا أسماءَه الأولى/ وفاضْ/ منذ بِيْدٍ تهدل الرملَ/ على الذكرى/ وذكرى تهدل الأسوَدَ/ فوق الأبيض الخاشعِ/ والأبيضَ فوق الأسودِ الشائعِ/ كي تحرسَ جمرًا بالرمادْ”.

تنكسر قسوة السجن دائما حين يعرف الشاعر ويقرر: “… مصيري ملفَّعًا/ بالغموض/ وحياتي محفوفةً.. بالقصائد”، وفي ختام قصيدة “ما دمتِ.. أكون”، حيث الحب يتقسى في نار السجن وبرده. وكذلك علاقات الصداقة بين المعتقلين، خلال الاعتقال وبعده، التي تسأل عنها الصحفيّة في “إل مانيفيستو”، فيجيبها الشاعر: “صداقات السجن، وصداقات المعاناة الشديدة، هي علاقات استثنائية، تكون للإنسانية فيها أولوية على الانتماءات السياسية”. وذلك ما يُعَوَّل عليه حين انتهاء الحرب في سورية، بخلاف ما يريده مُشعِلوها.




المصدر