عن ذاك اللقاء الغريب في المكتب البيضاوي…

12 مايو، 2017

المدن

تصلح عبارة “اللقاء الغريب في المكتب البيضاوي” التي استخدمتها الصحف الأميركية في تناولها لاجتماع الرئيس دونالد ترامب بوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، أن تكون عنواناً لقصة بوليسية مشوقة من تلك التي تدور أحداثها في الغرف المغلقة على طراز كتب أغاثا كريستي. لكن ما يمنع ذلك الوصف من ملامسة الواقع تماماً، حقيقة أن “الضحية” مُنعت من دخول الغرفة التي اجتمع فيها “الجُناة” مبتسمين، مع قرار البيت الأبيض بمنع وسائل الإعلام المحلية من تغطية اللقاء.
وأتت الصورة الأولى للقاء، بشكل صادم، من وزارة الخارجية الروسية، عبر حسابها الرسمي في “تويتر”، ويظهر فيها ترامب مع لافروف والسفير الروسي في واشنطن سيرغي كيسيلياك، صاحب الدور الخفي في علاقات ترامب المشبوهة مع روسيا، وهم يضحكون بشكل ودي كأصدقاء قدامى يجتمعون للمرة الأولى بعد فراق، كما أتت البيانات الرسمية حول اللقاء من الكرملين وليس من البيت الأبيض.
Follow
MFA Russia  ✔ @mfa_russia
Lavrov – @realDonaldTrump meeting has just started | В Овальном кабинете началась встреча С.Лаврова с Д.Трампом#RussiaUSA РоссияСША
5:57 PM – 10 May 2017
949 949 Retweets 721 721 likes
وكانت وكالة الأنباء الروسية “تاس” هي الوحيدة التي سُمح لها بتغطية الاجتماع، فيما فسر مسؤولون من البيت الأبيض ذلك بالقول: “مصورنا الرسمي ومصورهم الرسمي كانا حاضرين”. فيما قالت صحيفة “واشنطن بوست” أن مصور “تاس” يعتبر في الأوساط الروسية المصور الرسمي لوزير الخارجية لافروف، إذ يرافقه بشكل دائم ويغطي نشاطاته بدوام كامل، وجاء معه على متن الطائرة نفسها… وذلك على عكس تقاليد الولايات المتحدة التي لا “وسائل إعلام رسمية” فيها أصلاً.
ومع هذا القمع غير المسبوق بحق الإعلام الأميركي، والإعلام الحر المستقل بالمطلق، كان على وسائل الإعلام أن تتخذ قرارات مصيرية في تعاملها مع الموقف. فإلى جانب البيانات والمقالات والتحليلات المستنكرة لما قام به البيت الأبيض من إهانة للصحافة وقيم الديموقراطية لصالح دولة أجنبية (كانت حتى وقت قريب تصنف دولة عدوة)، قاطعت محطات تلفزيونية وصحف، البيانات والصور الدعائية التي بثتها وزارة الخارجية الروسية، بصرف النظر عن قيمتها الإخبارية، بما في ذلك شبكة “فوكس نيوز” المقربة من ترامب. بينما عرضتها قنوات مثل “سي إن إن” و”إن بي سي” بشكل موجز جداً مع إشارة إلى مصدرها الروسي وتعبير عن القلق على تدهور حرية الإعلام.
والحال أنه بعد حوالى شهرين على الهدوء والرصانة اللتين تحول إليهما ترامب، الساعي إلى ضبط نزعته الشعبوية في مقابل طرحه كرئيس من صقور الجمهوريين، بدا أن الرئيس عاد إلى جذوره. فلم يكتف بطرد مدير مكتب التحقيقات الفيدرالية، جايمس كومي، فجأة، بل استرجع أيضاً عداءه العنيف للإعلام، كما كسر سنوات من الديبلوماسية الأميركية الصارمة تجاه روسيا باستقباله لافروف. وهو أمر رفضته إدارة الرئيس السابق باراك أوباما منذ العام 2013، رغم “توسلات الروس للقاء من هذا النوع”، بحسب تصريحات لمسؤولين سابقين لصحيفة “بوليتيكو”.
وتضيف “بوليتيكو”  أن الإدارة الأميركية اعترفت أخيراً بأن بوتين طلب بشكل شخصي من ترامب استقبال لافروف، خلال مكالمتهما الهاتفية الأخيرة، فضلاً عن طلبه حظر التغطية الإعلامية (الأميركية) للزيارة، وأنه كان مقرراً من الأساس أن تصدر الصور والبيانات بإشراف مباشر من وزارة الخارجية الروسية.
وطوال زيارة لافروف إلى واشنطن، أظهرت موسكو مدى نفوذها في البيت الأبيض، بشكل يعزز الشكوك بأنها فعلاً دعمت وصول ترامب للرئاسة بطرق غير مشروعة كقرصنة الانتخابات لصالحه، فتحكمت بتدفق المعلومات ومنعت الصحافة وقمعت الإعلام والحرية، وللحظة قد يشعر متابع اللقاء بأن ترامب هو الذي يزور الكرملين. وازداد ذلك كله بالعرض المتبجح للقوة الذي قام به لافروف في اليومين السابقين أيضاً.
وبدا لافروف في تصرفاته، مرتاحاً بشدة، وليس في عاصمة كبرى رفضت استقباله منذ العام 20133 رغم الطلبات المتكررة. لكن الموقف الصارم الذي اتخذته إدارة أوباما من موسكو، تبدل مع ترامب الذي ينادي بعلاقات أفضل بين واشنطن وموسكو منذ حملته الانتخابية. وتجلّى ذلك في الضحكة المتهكمة التي أطلقها لافروف عند سؤاله عما إذا كان الاجتماع قد تطرق إلى طرد ترامب لكومي، خصوصاً أن الأخير كان يقود تحقيقاً حول علاقة ترامب المشبوهة بالكرملين، وذلك قبل يوم واحد فقط من وصول لافروف إلى واشنطن.
فأجاب لافروف ببرود تهكمي: “طرد حقاً؟! أنت تمزح”. وهو جواب يحمل كثيراً من اللؤم الدبلوماسي والسخرية المبطنة من عجز الصحافيين الأميركيين على طرح سؤال مباشر أو استنتاج حاسم بوجود تلاعب روسي في الديموقراطية الأميركية بشكل غير مقبول. ذلك أن الحدود السياسية والدبلوماسية لذلك لم توضع أصلاً من قبل البيت الأبيض، الخاضع باستكانة مخجلة. علماً أن هذا الموقف الروسي هو استمرار للموقف البعيد من الأعراف الدبلوماسية الذي بدأ عند زيارة وزير الخارجية الأميركي ريكس تيليرسون إلى موسكو، قبل أسابيع، وحينها تركه لافروف خارج مكتبه لفترة طويلة ينتظر، قبل استقباله وطرد الصحافة الأميركية ومنعها من التغطية أيضاً.
في السياق، كان شبح كومي حاضراً خلال تغطية اللقاء، مع التساؤلات المثارة في الإعلام حول تزامن طرده مع زيارة لافروف، إضافة إلى حضور السفير كيسلياك للقاء بشكل مفاجئ، كونه شخصية أساسية في التحقيق الذي كان يقوم به مكتب التحقيقات الفيدرالي في علاقات إدارة ترامب المشبوهة مع روسيا، خصوصاً أنه الشخص الذي التقى مستشار الأمن القومي السابق مايكل فلين بشكل سري، مرات عديدة، ما أدى إلى إجبار فلين على الاستقالة في شباط/فبراير الماضي، عندما انكشفت القضية ولم يمر على توليه منصبه سوى 24 يوماً.
ولكي تكتمل المسرحية السوريالية، فُتحت أبواب المكتب البيضاوي أخيراً أمام الصحافيين الذين فوجئوا برحيل لافروف والوفد الروسي ووجود ترامب وحيداً مع السياسي الأميركي المخضرم هينري كيسنجر (93 عاماً) المشهور بعمله كمستشار للأمن القومي ووزير الخارجية في عهد الرئيس السابق ريتشارد نيكسون. وهي زيارة لم تكن على جدول ترامب الرسمي المعلن عنه، وإن كان وجوده ليس غريباً جداً. فكيسنجر قدم لترامب مجموعة من النصائح مؤخراً حول تعيينات في إدارته، كما أشاد بترامب في ما يخص العلاقات مع روسيا، إضافة إلى كونه يحافظ على علاقات شخصية وطيدة مع الرئيس فلاديمير بوتين.
بناء عليه، يبدو أن اللقاء بشكله الغريب هذا، هو الخطوة الأولى لترامب لإعادة تعيين العلاقات الأميركية – الروسية، كما كان يتحدث خلال حملته الانتخابية، وجزء من صفقة ترامب الكبرى الخفية مع بوتين. علماً أن ترامب لم يتنصل أبداً من رغبته في العمل على اتفاق ما مع روسيا في السابق، حتى في ظل الفوضى العاتية الحاصلة في واشنطن حول علاقاته الخفية بالكرملين، ورغم كل التصريحات الرسمية “غير الدقيقة” بأن العلاقات بين البلدين في أدنى مستوياتها.
Follow
Mig Greengard @chessninja
“”Hey there, Serge, old buddy! How’s it.. uh, I mean, uh, very nice to meet you for the first time ever, Ambassador Kislyak. So nice.”
8:39 PM – 10 May 2017
190 190 Retweets 347 347 likes
المقلق هنا، أن ترامب سمح للافروف وبوتين بتحديد شروط العلاقة معه، وينسحب ذلك من هندسة اللقاء الأخير، إلى قضايا مفصلية كبرى مثل سوريا وأوكرانيا. ومن نافل القول أن صفقة “تجارية” ما حصلت داخل المكتب البيضاوي بين الكرملين وترامب، قد تغير مصير العالم، وتحديداً مناطقه الأكثر توتراً في الشرق الأوسط وشرق أوروبا.
ويجب القول أن سياسات ترامب تجاه روسيا لم تكن لتتغير حتى لو كان ترامب المزاجي أكثر توازناً وعقلانية في هذا التوقيت، لأنه لا يملك سياسة من الأساس تجاه روسيا على ما يبدو، مثلما لا يملك سياسة خارجية بالمطلق أساساً. فكل ما يقوم به، من طرد فلين، إلى تعيين الجنرال هربرت رايموند مكماستر مكانه في منصب مستشار الأمن القومي، ثم طرد كومي من مكتب التحقيقات الفيدرالية، كلها تصرفات لا تتبع نسقاً سياسياً منطقياً. لكن ذلك لا يعني أن بوتين لا يملك سياسة خاصة به اتجاه أميركا. (*) كاتب سوري

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]