“في حضرة الحيوان”: دهشة السيوي لا ما يعرفه


كتب كانط أن “الشيء المعروف مجهول لأنه معروف”، وما قصده في أحد مراميه يخصّ اعتيادية الرؤية وبالتالي تأبّد الرؤيا. في معرضه الأحدث “في حضرة الحيوان” يَنذر التشكيلي المصري عادل السيوي (1952) أعماله لدهشة خالصة تخصّ أمر الحيوان في تبدّيه وحضوره الخاص.
في حديثه إلى “العربي الجديد”، يقول ضاحكاً: “تخيّل أن تقيم معرضاً عن اندهاشك لا عمّا تعرفه، باختيارك تجسيد الحيوان كي تحتار أمام وجوده!”.
عبر 270 عملاً تتفاوت في أحجامها ما بين أعمال صرحية واسكتشات تحضيرية، وتتنوّع أيضاً في شخصيات حيواناتها (طيور، أسماك، حشرات، كائنات مستأنسة، وأخرى وحشية)، يبسط السيوي دهشته وحيرته أمام زائري معرضه الذي يقام في ثلاث قاعات تتبع “غاليري مشربية” في القاهرة.
تتبدّى حيوانات السيوي بلا دلالات ولا رموز تحملها، كأنها غفل إلا من حضورها المادي والجسدي في الحيّز الذي تملؤه في لوحاته. هنا حيوانات تنفي عن نفسها التصوّرات الثقافية التي أضفاها البشر عليها، بمساعدة العناصر التشكيلية التي قدّمها الفنان. يشرح السيوي رؤيته بالقول: “أنا رجل يحب الحكايات، كيف من مجموعة مختلفة من العناصر تصنع علاقة ما من غير مشروطية إيجاد دلالة. تصبح قوة الحكاية في نفسها. وهذا ما حاولت تقديمه هنا: نزع الدلالات التي تلبّسها الحيوان عبر تاريخه بحيث يكون حاضراً بذاته في ذاته”.

ما يطرحه السيوي يعطي الانطباع بأنه لا يبدو مسيطراً على لوحاته، ويتركها تتشكل في لاوعيه. وهو الأمر الذي يؤكده بتمييزه بين العمل النهائي والرسومات التحضيرية. يقول: “الاسكتش رغبة، بينما إنتاج اللوحة في إحدى مراحله من عمل اللاوعي، حيث يجذبك العمل الفني لمنطق تكوينه الخاص، وإن لم تطعه في هذا فإنك تسجنه في تصوّراتك المسبقة”.
ربما لهذا يستدعي السيوي ذلك المعنى الوظيفي للفن الذي وضعه هايدغر في كتاب “أصل العمل الفني” إذ يقول إن “وظيفة العمل الفني هي إمكانية لجعل الحقيقة تتحرّك أو تتجسد أو تتشكل”. يضيف: “ما يعنيني هنا هو مجال الحرية كممارسة فنية وكإظهار للعالم في التشكيل”.
لكن هذا أيضاً لا ينفي أنه يدخل لبعض أعماله بقصدية مباشرة وبفكرة واعية – كما يقول عن مجموعة لوحات “الرجل الجدي” في معرضه – وفي تزاوج هذه القصدية، مع تفاعلات العناصر التشكيلية لكل عمل يقاد لمناطق تتجلى شيئاً فشيئاً عبر عملية من الهدم والبناء داخل اللوحة. هنا يعرّج السيوي على معنى الكتابة عند ابن خلدون باعتبارها “رد الخاطر”. يشرح “أحياناً أسكب بقعاً لونية على سطح اللوحة وأنتظر لأرى ما يمكن أن تخرجه تفاعلاتها معاً. أحذف منها وأضيف إليها إلى أن يظهر الشيء الذي يفرض عليك وجوده لتتعامل معه، كخاطر ابن خلدون الملحّ”.
التأثيرات الفلسفية التي يستدعيها السيوي في كلامه تتبدّى مثيلاتها في أعمال معرضه. لن يفوت المشاهد أن يرى حضوراً فرعونياً في بعض الأعمال أو محاورات بصرية مع رسومات كهوف الإنسان الأول، ولا حتى لعباً مع جِمال الواسطي في منمنماته، يستعيرها السيوي في حضورها المجرّد وتمظهرها الفريد من غير أية دلالة أخرى.
يؤكد السيوي هذا التأثر البصري بقوله إن هذا المعرض كان “محاورة مع كل الممكن واستدعاءً لكل ما يمكن استدعاؤه في ما يخص أمر الحيوان”. لكنه يضيف: “الحيوان في معرضي لا يتبدّى مُعلماً أو قديساً أو حتى رمزاً لأمر ما. هنا حضور أوّلي يخصّ تأمل الهوة التي تتسع بين الحيواني والإنساني، ليس بغرض تجسيرها أو لنبني أسطورة جديدة عن أنفسنا باعتبارنا حيوانات، إنما لتقديم انشغال بسؤال ابتدائي يخص الوجود الحيواني في تقاطعاته مع الوجود الإنساني”.
ليس هذا معرضاً إذن عن أنسنة الحيوان، ولا في المقابل حيونة الإنسان (باستعارة عنوان كتاب ممدوح عدوان) كما في لوحة “آخر الرومانتيكيين” التي يظهر فيها صلاح جاهين ككتلة من اللون الأسود غير واضحة الملامح تبدو أقرب لجسد شمبانزي.
يدلل السيوي على هذا الاستنتاج وهو يستحضر حيوانات والت ديزني الشهيرة حيث تظهر إحداها في واحد من أعمال معرضه، وتحديداً شخصية Donald duck والمعروفة عربياً باسم بطوط، يقول: “مارس ديزني أنسنة كاملة على حيواناته، بطوط كان واحداً منها، إنه واحد من شخصيات طفولتي، النموذج المضاد للبطل، الذي يستهزئ به الجميع، ويحبونه مع ذلك”. ثم يضيف ضاحكاً: “تصوّر! بطوط كان بحاراً، يقود قارباً في بعض الأوقات، لكنه لم يظهر في أي مرة يسبح، مع أنه في الأصل بطة”.
يسيح المعرض – والأمر كذلك – على تخوم الحالتين، الحيوانية (والإنسانية أقل قليلاً)، وبينهما، بتقديم الجسد في حضوره المتفرّد والواحد والمدهش، وكذلك اللاثقافي واللاتاريخي.
ويتوسّل السيوي لغايته بزخارف تشكيلية منمنمة وخلفيات لونية محايدة تطغى على معظم لوحاته، لتمنح حيواناته ذلك التمظهر الصافي والخالص، “ظهور يأخذ قوّته من مجرد التكشف والحضور كما حضور العالم نفسه” وفق ما يقول الفنان، والطموح المعلن لدى السيوي هو خلق حكاية للحيوان من غير سجنها داخل معانٍ وإجابات قدمتها الأديان و/ أو الفلسفة و/ أو التاريخ الثقافي.



صدى الشام