كل شيء متحرك ليس بثابت حتى الحقيقة!


عبد الرحمن شرف

المكان والزمان مرتبطان ببعضهما، ولا نستطيع أن ندرك ونحدّد أحدَهما إلا بإدراك الآخر وتحديد جزء من خصائصه، ولدى الإنسان قدرة جزئية في تحديد هذا، كونه مخلوقًا عاقلًا متعقلًا، أو مخلوقًا على صورة الخالق، وكلما ازداد وعي ومعرفة الفرد ازداد فهمه للزمكان، ومشاركته الفاعلة في واقعه، ومعرفة حقائقه. ويبقى هذا مستمرًا لدى الأفراد والشعوب؛ فالمعرفة لا تنتهي، وما زال الكون يخفي عنا كثيرًا من أسراره وغموضه في المجالات كافة، وكل بيئة تحمل طابعًا معينًا ومعايير ودلالات، وعملية تشكل هذا المجتمع بالمفاهيم والقيم المتضاربة والمشتركة، علمية، دينية، فكرية، سياسية، ثقافية واقتصادية… إلخ، تحتاج إلى تغيير أو تجديد، ولتنظيمها أكثر من قبل أو إسقاطها من جذورها، ولا نستطيع أن ندافع عن وجودنا وحقوقنا إن لم نكن نملك الوعي الكافي تجاه قضايانا المتنوعة التي ترتبط  بحريتنا ومصيرنا وكرامتنا الإنسانية، والطريقة التي ندافع بها تجاه هذه القضايا.

لا يمكننا أن نتحدث عن سقراط وأفلاطون من دون التحدث عن الزمكان اللذان تواجدا فيه، والظروف المحيطة بهما، وثقافة وواقع عصرهما التي انطلقوا منها، وتوجههم السياسي والنظام السياسي القائم حينذاك، كما أنه لا يمكننا التحدث عن النبي موسى وأرخميدس وهيغل دون الحديث عن الزمكان والظروف التي تواجدوا فيها وطبيعة شخصياتهم الفيزيولوجية والنفسية عبر مراحل نشوئهم في حياتهم، في ذلك العصر ومتطلباته وضروراته.

ويرافق الزمكان حركة الفرد والأشياء والجماعات في وجودهم وصيرورتهم ضمن الزمكان، أي إن الكينونة هنا ليست خارجية فحسب بل هي داخلية أيضًا في الفرد والأشياء والجماعات في هذه الصيرورة ضمن الزمكان؛ ولا يوجد سكون هنا، فالسكون قد يبدو ولكن الأشياء تبقى تتحرك في تمثلاتها الداخلية الروحية منها والمادية، ويوجد ترابط بين الحدس الداخلي الباطني للفرد وبين إرادته وحريته وأبعاد الصيرورة للواقع المشكلة للمجتمع والزمكان.

من هنا يكون للتاريخ حركة متغيرة بين عصر وآخر، قد يسير بتنظيم إلى هدف معين أو عبثية من دون هدف أو كلاهما معًا، ويعتمد الأمر على درجة وعي الأفراد والجماعات بظروف تواجدهم في هذا العالم، بما يربطهم بالتاريخ وبروابط مشتركة بينهم في حاضرهم ومستقبلهم، وبحسب قراءتهم لحقائق التاريخ؛ لأن الزمكان يبقى يشمل بتعريفهما الماضي والحاضر والمستقبل.

تتغير الحقيقة من شكل إلى آخر في سياق حركتها ومكانها وزمانها، ويتغير الفرد والجماعات والهويات التي تربط وجودها بثقافتها لمفهوم الحقيقة وتعريفها، وتبني عليها سلوكها وقيمها وحريتها ونظامها الاجتماعي والسياسي، لأنه لا يمكننا فصل الحقيقة عن الذات الفردية أو الجماعية التي نمتلكها ونعيشها وتتواجد متحركة ضمن الزمكان.

الحركة ذات طبيعة تركيبية لتلك الأشياء في تقابلها بين الضد والمضاد، ومركب الضد والمضاد الموجود في كل مادة حية أو غير حية، والتوسط والتماثل والتركيب فيما بينهما، ينتج منها عناصر أخرى في هذه الحركة، والتماثل بين الضد والمضاد أيضًا أو بين الموضوع ونقيضه، ومركّب الموضوع والنقيض في تآخي وتمثل الوعي والحرية والإنسانية بطروحاتها المتشكلة.

لتوضيح الأمر أكثر، نقول: الذرة هي جزء مُكوِّن لأي مادة حية أو غير حية، تتكون بداخلها من إلكترونات وبروتونات سالبة وموجبة، تتحرك على مدارات هذه الذرة، وتولد حركتها طاقة، وباصطدامها بمواد أخرى أو انشطار الذرة تولد أيضًا عناصر أخرى، والسالب والموجب هما نقيضان لبعض بقدر ما هما مكملان لبعضهما البعض في تماثلهما.

يوجد شيء ثابت واحد لا يتغير -وقد يتغير- وهو سرعة الضوء، تنفذ في الأشياء ويوجد علاقة بين نفاذها في الأثير والفراغ والأشياء وحركتها المستمرة في تأثيرها على هذه الأشياء.

ويبقى سؤال مطروح أمام المجتمع العلمي في ثبات سرعة ضوء في المادة المظلمة أو الثقوب السوداء أو في كثافة وسط وآخر، هل تتغير أم تبقى ثابتة؟ وتبقى النظرية العلمية خاضعة للتجديد والبحث والتطوير، ثباتها يمكن أن يكون نسبيًا في عصر معين وظروف معينة.

مصدر الحكمة الواحد الذي يتواجد عبر مراحل التاريخ في حياة الشعوب لا يتغير، لكنه يأخذ أشكالًا وأبعادًا متعددة متنوعة في كل عصر ضمن المكان والزمان، ولو أخذ أشكالًا متنوعة في تشكله وأبعاده وجب أن يحافظ على أولويات الحياة من الحرية الفردية والعدالة والمساواة الاجتماعية، ولا يتعارض مع احتياجات الطبيعة الإنسانية وضرورات الحاضر في تمثيل هذه الحرية والعدالة والحقوق للفرد في مفهومه لهويته التي ليست ثابتة بل متغيرة، ومكان وجوده في ظل انتمائه لجماعة وشعب ووطن ودولة معينة يحقق قيامها هذا الهدف، ويواكب مسيرة تطوّر فكرة الدولة وهدفها عبر التاريخ لتنظيم الشعب والأمة بأفضل نظام يحافظ على حرية الفرد وحقوقه.

لذلك فإن جدل الحقائق والحقيقة أو اليقين ومسيرتهما، هو جدل الواقع نفسه، والواقع في الزمكان، هو كل شيء محتوى في هذا الكون، والواقع أي الوجود كله بمعطياته المتوفرة لدينا وتنوعه وتناقضه ومشتركاته وعلم المنطق وتطوره عبر التاريخ، يوضح لنا طبيعة هذه الجدلية بين الإنسان والواقع.

لا نستطيع أن نحكم على الحقيقة ونتائجها حكمًا كليًا في أي مربع قياس، بل يبقى الأمر قائمًا على البحث والحركة، والحقيقة أقصد بها هنا حقيقة الشعوب في تصورها عن الله المطلق أو حقيقة حدث اجتماعي وعلمي.

تتقدم الحضارات وتتأخر حسب تصورها عن المطلق الله، بتجلي الروح وصيرورة وأبعاد المجتمع الأخرى في حركتها وتشكلها، أي هنا يخرج الدين من معناه التقليدي، ومعنى تملك فيه فئة دينية وسياسية تؤثر على المجتمع الذي تواجد في عصر نشوئه وفي حاضره أيضًا التي تسلب حرية ووعي الأفراد والمنتمين إلى هذا الدين أو الطائفة. إلى المعنى التنويري والحيوي، ويرافقه حرية الفرد وهويته وذاته التي ينبغي أن تكون وجودية حرة فاعلة بوعي، وتخدم المصلحة العامة للمجتمع والكون والعالم أجمع، وليست مرتبطة بقانون منغلق أو جماعة معينة وحدود أو شخصيات دينية وسياسية وفكرية وغيرها من قيم العبودية المطبقة على عاتق الأفراد والمجتمع التي تؤثر سلبًا على وعيهم وحرياتهم وهويتهم وعلى بناء النظام الاجتماعي.




المصدر