هكذا أصبحتُ أبًا روحيًّا لخلود


ميشال شماس

ألو.. من؟  أنا خلود. من خلود؟! أنا خلود العسراوي، أستاذ.

أنا: أهلًا خلود، ما عرفتك، خير لأي شيء صوتك هكذا؟

خلود: والله يا أستاذ، لا شيء، بعض إرهاق وتعب. أتصل بك لأخبرك أن صبية اسمها “ريما” تم تحويلها من فرع الأمن إلى النيابة العامة في القصر العدلي، وهي الآن في النظارة، وليس هناك من أحد يساعدها، فأرجو أن تقف بجانبها وتساعدها. نحن نعذبك كثيرًا معنا، لكن ما لنا غيرك يا أستاذ، تحمّلْنا.

أنا: حسنٌ، سأتصرف، تكرم عيونك وعيونها يا خلود.

خلود: ألله يحفظك، يا أستاذ، أملنا فيك كبير. أمانة، سلّم لي عليها، وخبّرها أني أنتظرها. وليتك تخبرني بما يحدث معك، أستاذ.

أنا: لا تشغلي بالك يا خلود. سأهتم بها، وسوف تسمعين صوتها قريبًا.

هكذا، بين فترة وأخرى كانت الصبية السمراء “خلود العسراوي” تتصل بي لتخبرني عن صبية أُحيلت إلى القصر العدلي في دمشق، وتطلب منّي أن أساعدها، وكانت تفرح كثيرًا عندما أخبرها أن صديقتها قد أصبحت حرة.

مضى نحو عشرة أيام على هذه المكالمة، من دون أن أسمع صوتًا لخلود، استغربتُ الأمر، وتساءلتُ في نفسي عمّا يمكن أن يحدث لها، علمًا أن أجهزة الأمن كانت تُحيل في كل يوم العشرات من المعتقلين إلى القصر العدلي بدمشق، وحملة الاعتقالات مستمرة لم تتوقف أيضًا، تساءلت في نفسي، تُرى أينَ خلود؟ عسى أن يكون غيابها خيرًا! انتظرتُ أن يخبرني أحدٌ من زميلاتها أو زملائها عنها عن مكانها عن أي شيء؟ ثم علمتُ، فيما بعد، أنها انضمت هي الأخرى إلى قوافل المعتقلات والمعتقلين، لقد اعتُقلت خلود. كان ذلك في 10 أيار/ مايو 2012.

بعد نحو خمسة عشر يومًا أو أكثر، لم أعدْ أذكر بالضبط، كنتُ نازلًا من قاعة المحامين في القصر العدلي بدمشق باتجاه ديوان النيابة العامة لتفقد أسماء الموقوفين كعادتي بين فترة وأخرى، شاهدتُ مجموعةً من الشباب والشابات مقيدين بجنزير حديدي يسير خلفهم شرطي، واثنان من الميمنة ومثلهما من المسيرة، وآخر يتقدمهم، وهو يمسك بطرف الجنزير يسير بهم إلى محكمة صلح الجزاء في الطابق الأرضي؛ فأسرعتُ الخطى إلى حيث أوقفوهم بجانب الحائط، قرب باب المحكمة بانتظار أن تأتي القاضية، وشاهدت أغلب الموقوفين والموقوفات فرحين والابتسامة لا تفارقهم وهم يتحدثون مع أقاربهم، إلا شابة سمراء اللون كانت وحيدة لا أحدَ معها، وبدت حزينة ومنكسرة الخاطر، وهي تنظر إلى رفاقها المسرورين مع أقاربهم، اقتربتُ منها، فإذا هي “خلود العسراوي”؛ ناديتها بصوتٍ عال: خلود، لا تخافي. أنا هنا معك، انفرجت أسارير وجهها، وارتسمت البسمة على شفتيها، وسالت دموعها فجأة على وجنتيها، اقتربتُ منها أكثر لأهدئ من حالتها وأرفع من معنوياتها، إلا أن الشرطي منعني، وسألني إن كنتُ وكيلها، فأجبته نعم. ومن غيري؟ عندها سمح لي بمتابعة حديثي معها قبل أن يدخلها الشرطي إلى قاعة المحكمة، حيثُ شكرتني على حضوري معها، مؤكدة أنها لن تنسى وقفتي تلك، فقلتُ لها: هذا هو عملي هنا، فلا تشكرينني على شيء أنا أجدُ فيه نفسي، كما أنني أستمتع بدفاعي عنكم، وطلبتُ منها أن تكون هادئة في أثناء الاستجواب، وأن تنكر اعترافاتها الأمنية.

بعد قليل جاءت القاضية، وأُدخل المعتقلون إلى قاعة المحكمة، وبدأت القاضية باستجوابهم تباعًا، تسألهم عن التهم الموجهة إليهم المدونة في ضبط الأمن، وهي الاشتراك بالتظاهر وترديد شعارات وهتافات ضد النظام، فأنكر كلٌّ منهم التهم الموجهة له؛ عندها قررت القاضية تركهم، وإخلاء سبيلهم جميعًا، على أن يُحاكموا طلقاء؛ فساد جو من الفرح على وجوه كل من كان في القاعة، بمن فيهم عناصر الشرطة الذين ينتظرون هذه اللحظة للظفر بتحلاية إخلاء السبيل كالعادة مئة من هذا، ومئتين من ذاك، وخمسمئة من تلك، وهكذا يعملون مثل المنشار، بعد التوقيف يأخذون بحجة الاهتمام بالموقوف في النظارة، وبعد إخلاء السبيل يريدون الحلوان!

خرجتُ مع “خلود” من القصر العدلي، وعلى الرغم من فرحتها بإطلاق سراحها، إلا أنها بدت حزينة، وعندما سألتها عن سبب هذا الحزن، أجابت أنها كانت تتمنى أن يكون في استقبالها أحدٌ من أهلها، فقلتُ لها: لو أنّ أهلك يعرفون بإحالتك إلى المحكمة، لكانوا بالتأكيد قد أسرعوا في المجيء إلى هنا للوقوف معك ومساندتك، ثم تابعتُ قولي لها: “وبعدُ، يا خلود، ألستُ هنا من أجلكم، اعتبريني من أهلك.. أباك، أخاك… فاغرورقت عيناها بالدموع، ثم طلبتُ منها أن تتصل بأهلها الذين ينتظرون أي خبر عنها، أخذتْ موبايلي وتحدثت مع أهلها وهي تبكي من الفرح، بعد أن أخبرتهم أنها أصبحت حرّة، وهي الآن في طريقها إلى البيت.

وفي صباح اليوم التالي فاجأتني خلود بكلماتها المعبرة على (فيسبوك)، حيث نثرت كلامًا مؤثرًا عمّا حدث معها في المحكمة، وأطلقت عليّ صفة “الأب الروحي”، معبرة عن سعادتها لكونها محظوظة بأبوين؛ وقد أثّر فيّ ذلك عميقًا وأعطاني جرعة إضافية للعمل بنشاط أكثر في متابعة أمور المعتقلين مع بقية زملائي.

حدث ذلك قبل أن يُعتقَل رئيس هيئة الدفاع عن معتقلي الرأي والضمير أستاذي المحامي خليل معتوق في 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2012، وهو ما يزال معتقلًا حتى تاريخ تحرير هذا المقال، من دون أن نتمكن من معرفة أي شيء عن مصيره، في ظل استمرار نظام الأسد بحجب أي معلومة عنه شأنه شأن عشرات الآلاف من المعتقلين الذين ما زالوا يقبعون في زنازين وأقبية المخابرات.




المصدر