أرواح عابرة

13 مايو، 2017

جاد الله الجباعي

صباح بارد وشمس باهتة ينهنه حرارة شوقها حجاب من غيم ثقيل، وريح لعوب متقلبة الهوى تفسد حيلة أنفاسه في نفخ روح النار في الحطب الرطب، لكنه لا يمل ولا ينثني عن عزمه لحظة، يأخذ نَفَسًا عميقًا من الهواء البارد ويملأ تجويف صدره، يُسخّن الهواء في شعاب رئتيه على حرارة صبره، ويعيد نفخه في ثقوب صفيحة الزيت الصدئة فيستحيل سديمًا من بخور الأرواح، المجهولة المصير، وجذوة نار تعلن سر تعاشقها مع روح الماء، ترسم طيف مباهجها في برودة دمه، وتعيد إليه حرارة الحياة. هكذا يبدأ “أبو الدراويش” يومه على الرصيف الفاصل ما بين الأحياء والأموات، على خطى (برومثيوس) الذي لا يعرفه، لكنه يشعر مثله بنشوة النصر ومعاناة العقاب. يسرق النار في كل صباح من آلهة النار، ويوقد الحطب في صفيحة الزيت.  يمد يديه فوق اللهب، ثم يفركهما ليعتصر منهما الدفء ويمتصه من شرايينه إلى مفاصل جسده الخدرة. ثم يضع إبريق الشاي الأسود فوق الصفيحة، يتملى بصمت في وجوه العابرين أمامه في ضباب الصباح، وفي أشباح الوجوه المتراقصة على ألسنة اللهب. يتكئ على رخامة الباب كأنه يطابق بصمة جسده القديمة على بياض الرخام، ويمد نظره فوق قبور “رعاياه” فيعيد ترسيم الحدود بين هياكلهم، ويشرف على توزيع الأرواح العائدة من أحلام الأحياء إلى مواقعها، دونما حيرة ولا التباس، ويطلق صرخته المعتادة بأعلى صوته: يا كريييييم.. وينتظر على مهل حلول المجهول في المعلوم، أو حلول الأرواح في هياكل الموتى، أو على الأقل غليان الماء في إبريق الشاي.

يا كريم، صرخة يرددها أبو الدراويش، ليعيد رسم حدود وجوده ما أن يستفيق من غفلة الصمت الباذخ في ترف هواجسه، أو يحس بنقص الحياة. ولسحرية الكلمة يرددها خلفه العابرون دونما تفكير ولا تفسير، كأنما لدى بعض الحروف تواطؤ على إفشاء الاسم وهرف المعنى.

أبو الدراويش لا اسم له ولا هوية، وليس عنده ملك، لكنه يملك ذاته، فلم يخف من المقابر مرة ولم تزر أحلامه أرواح الموتى. ولا يخاف من الغد ولا من الموت، ولا يخجل من عريه.  فهو لم يكشف جسد امرأة منذ ماتت أمه، ولا تزوره الأحلام المجنحة بأخيلة النساء وأرواح الأموات. لكنه يخاف من الأمس، ويشعر بذنب قديم يلاحقه، فما زال يعتقد أنه قتل أمه يوم كان رضيعًا، وامتص رطوبة جسدها كلها من ثديها حتى ماتت، ومنذ تدحرجت حروف اسمه على لسانها الدامي آخر مرة لم يذكر أحد اسمه أبدًا، ولا حتى هو نفسه، ولم تثر الأسماء في أشعار أذنيه مشاعر كتلك التي يثيرها سماع الاسم عند من صارت لهم أسماء.  كبر خلسة من دون اسم حتى أطلق عليه صبيان الحارة المجاورة ذاك الاسم، فصار اسمه (أبو الدراويش).

لكن (أبو الدراويش) ليس اسمًا وكنية على جري العادة في إطلاق الأسماء، وليس صفة وكناية على جري الغاية في إطلاق الألقاب، تيمنًا، أو تأملًا في خلود الموروث من ذاكرة الأموات على ألسنة الأحياء، أو رجاء بامتداد صفات الميت على شخصية الحي. (أبو الدراويش) كناية أخرى، ربما تعود إلى جذر الرمز في نشأة منطوق الكلام، وسقطت سهوًا من فلسفة التأويل في زمن الكتابة، أو تعود إلى حنين الصريح إلى لعب طفولته في فيحاء المقاصد وتوريات الكلام، وإلا فثمة في سرير اللغة العذراء شبهة روح من لغة أخرى لا يتقن كتم سرها الأطفال.

على كل لم يكن (أبو الدراويش) ليهتم باسمه الجديد على قدر اهتمامه بقبضات السكر والشاي الممدودة من تخاريمه، لقاء سماحه أن يلعب الأولاد في حرم المقبرة، وبعض المهام الأخرى. فمنذ يبس أخر لسان نطق اسمه الحقيقي لم يعد لديه ذاكرة للأسماء، ولا ذاكرة للتاريخ، مثله مثل الكثيرين من مجاوريه ومجايليه. لديه ذاكرة للوجوه فقط، يتلقفها بعينيه الشاردتين من شروخ صفيحة الزيت كلما لعبت الريح بألسنة اللهب.

عاش أبو الدراويش سحابة عمره على رخامة الباب الفاصل بين حزن الأحياء وفرح الموتى، رفيقًا للأموات وصديقًا للأحياء، دون أن تتغير ثيابه مع تغير الفصول، ودون أن تتغير ملامح وجهه، لكن الأولاد كبروا، امتصوا رطوبة أجساد أهلهم وذاكرتهم، تغيرت وجهوهم وأحلامهم، ونتأت تفاصيل أجسادهم وأسمائهم. تشابكت أهواؤهم وتفاصلت مآربهم، ولم يعد لهم اسمٌ واحدٌ يجمعهم، انتظروا عشيقاتهم وعشاقهم على مداخل الحارات، تهامسوا من الشرفات والشبابيك، كتبوا رسائل العشق، أودعوها في صندوق أسرارهم، والطابع كلمة الشكر الصادق لأبي الدراويش وظروف الشاي والسكر. اتسعت أبواب الحياة أمام بعضهم، وضاقت أمام القسم الأخر، اتسعت حدود بلدهم لأحلام بعض منهم، وضاقت على أحلام القسم الأخر، لكنهم كبروا، بنَت العشيقات بيوت أحلامهن بإبر الخوف وخيوط الأمل، وأتممن تعلم فنون الخجل، وتطريز وسائد الأسرّة وستائر غرف النوم.

كبر الأولاد، وكبرت معهم ألعابهم، كبرت لعبة (البيت وبيت) وكبرت لعبة (الحرب)، تزوجوا وتزاوجوا، فصار المجاز حقيقة، توالدوا وكبر أولادهم، رضعوا أصوات الحروف، سرقوا أسماء أهلهم وأعطوهم أسماء أخرى، فنسوا أسماءهم على ألسنة أمهاتهم، كأبي الدراويش، ومن لم يصبح أبو (اسم ابنه) صار أبو (اسم أبيه) أو أبعد. لعب الصغار بسِيَر ذويهم، وفي ملاعب طفولتهم في حرم المقبرة، اختلف الأهل بشأنهم، وعلى جواز اللعب بميراث الأموات وأشباه الأحياء وأشياء أخرى، كبر الخلاف وكبرت لعبة (الحرب) وتغير اسمها، سقطت أقواسها، وصار اسمها حربًا أهلية. توسعت ساحة الحرب، اجتاحت صفيحة الزيت من أمام أبي الدراويش، واجتاحت حرم المقبرة وقبة المصلى وحوض المطهر، عبرت الألعاب المصفحة فوق هياكل الأموات بجنازيرها الثقيلة، فزلزلت الأرض فوقهم وتحتهم. ارتعدت أرواح الموتى فاختلط النشور بالانتشار، واختلطت أرواح الأحياء وأنصاف الأموات، وفقد أبو الدراويش ذاكرة الصور. تشابكت الأحلام فالتبست طرق الزيارات على الأرواح، واختلطت طرق العودة. دخلت روح الله بحلم الحاكم، وروح “الغالب” في حلم “المغلوب”، وروح الحاكم في حلم المحكوم، وروح الجار بحلم الزوجة.

تمدد الزمن على صدر أبي الدراويش وتمدد حرم المقبرة، لكنه لم يكبر، توقفت لعبة الحرب باسمها الجديد من نقص الزيت في معدات اللعبة، اتخذت مع تشابك الأرواح في أحلام اللغات أشكالًا أخرى وأسماءً أخرى، وثمة من نسي فصول اللعبة القديمة، وثمة من لم ينس.

لكن الجميع نسوا أبا الدراويش يتكئ على رخامة الباب الباردة، ساعٍ يوزع رسائل الحب من صندوق أسراره، ويمنع ما استطاع عبور الأحياء إلى مملكة الأموات. وما تذكروه في صور تندرهم: أن حانوتيًا كان يجلس في كل صباح عند باب المقبرة، يوقد النار في صفيحة الزيت الصدئة، ينتظر قدوم الرزق، ويصيح بأعلى صوته: يا كريم.

دمشق 2010

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]