بُستان الألحان


نجم الدين سمان

هكذا اسمُ المحلّ لدى كثيرين، ينزوي فيه الجابريّ بين مئاتِ الأسطوانات الموسيقية ودوائر أشرطة التسجيل، قبل أن تصيرَ على هيئة كاسيتٍ مُستطيل؛ أو على هيئة “سي دي” دائري.

دخلنا ذاكَ البستان أنا و”أبو الكِيف” سائق بوسطة إدلب- حلب. كانت البساتينُ على ضفَّة “نهر قويق” قد اكتسحتها الأبنية. لم يبق فيها سوى هذا البستان/ الدُّكان يصدَحُ بالألحان.

طلبَ أبو الكيف من الجابري شيئًا من الطرب الحلبيّ غير محمد خيري، رمقه الجابري ليمتحِنَه: – قَصدَك.. صباح فخري؟!

– أقدَم.. أقدَم.

أشار الجابري إلى بَكَرةٍ أمامه:

– هذه فيها كلّ ما لم تَعُد تسمعه الأذُن: بهيّة حبيبو، فيروز الحلبية، إلهام شدروفيان، سعاد محمد.

أكّد الجابري بأن سعاد محمد قد اشتُهِرت أولًا من إذاعة حلب، ثمّ تابع:

– وختامُهُنَّ مِسكٌ مع صبري أحمد.

لم أكن أعرِفُ أن صبري أحمد هو الاسم الفَنِّي للحاج صبري مدلّل، وأنّهُ قد سجّل أغانيه لإذاعةِ حلب -بهذا الاسم- اتقاء غضبِ والدِه من امتهانِهِ الغناء، ثم اكتشف الوالدُ اسمَه المُستعار؛ فأخذ عليه عَهدًا، بكسر الهاءِ ثلاثَ مرّاتٍ، بألا يعودَ إلى الغناء، قائلًا:

– فإذا مِتُّ.. افعَل ما يحلو لك.

أقفل صبري مدلّل حَنجرَته عن غنائِها حتى ماتَ والده، ثم صار يُغنِّي في سهراتٍ خاصةٍ للبيوتات الحلبية، وسمعته في إحداها، على الهواء مباشرة، بعد 30 عامًا من سماعي له من مُسجِّلة أبو الكيف. عبرنا “باب الحديد” إلى حيثُ بيتِ مُستضيفنا، كانوا قد شطفوا باحة الدار، وقطفوا ورودًا من حديقتهم، فصارت نجومًا مُلوَّنة في “البِركَة”.

لم تكُن هناك موائد للطعام، ولا أصوات ملاعق تعلو على صوت الموسيقا، فقط.. شاي وزهورات وماء مُعطَّر بماء الورد، وبالطبع.. فناجين قهوة عربية مُرّة تدور على الحاضرين. همس الحاج صبري لنا:

– فَيّ ومَيّ وخضرة؛ بس.. وين الوجه الحَسَن! ما عَمّ شوف إلا الحنَاش.

أجابه صديقي: نعزم لك صديقاتنا.. لكن استأذن لنا صاحب البيت.

ناولونا الهاتف الأرضيّ من أحد الشبابيك؛ فلمّا اصطفت صديقاتنا على كراسي الخيزران أمامَه.. تنهَّدَ الحاج صبري:

– هلأ.. اكتمَل “البَشرَف”.

ثم أشار بإصبعه إلى كُلّ واحدةٍ منهُنّ:

– هذه.. من مقام الصَبا، وتلكَ.. من مقام النهاوند، من مقام الحجاز، من مقام الرصد، من مقام الكُرد، وأنتم الرجال جميعًا.. من مقام النَكرِيز.

مدّ أبو الكيف يَدَهُ نحو الشريط سائلًا الجابري عن ثَمَنِه، فربتَ الجابريّ على كَفِّه:

– اتركها؛ هذه هي النسخة الأصلية، سأنسخها لك. عُد غدًا بعد صلاة الظهر.

ثمَّ التفتَ إليّ: وأنتَ.. رَسيتَ على إشُّو يا أبو الشباب؟

– أُحِبُّ الموسيقى الصافية أكثر.

سألني الجابري: هل قرأتَ ألف ليلة وليلة؟

فتباهيتُ أمامه: من طبعة “بولاق” حصريًا.

ابتسم الجابري، وهو يهزُّ رأسه:

– سأهديكَ شريطًا لسيمفونية شهرزاد لكورساكوف.. بشرط.

– أشتري بِحُرِّ مالي.. بلا قيدٍ أو شرط.

فالتفتَ أبو الكيف نحوي:

– فيكَ عِرقٌ من جَدِّكَ إسماعيل.. رَحِمَه الله.

تابع الجابري: تَعَلَّم يا ابني.. أن تسمعَ الجملة كلَّها، ثم أجِب بِمَا تشاء. لا يكتمل جَوَابٌ في الموسيقى بغيرِ قرارِه.

قلت: معك حق، ولكن بلا شروط مُسبقة.

ضحك الجابري: وأنت معك حق، طيِّب، سنعقد اتفاقًا؛ تُعِيرُني طبعة بولاق لألف ليلة وليلة لأقرأها، وأُهدِيكَ سيمفونية شهرزاد.

– اتفقنا.

ناولَني شريط شهرزاد، ثمّ أردَفَ:

– معها -أيضًا- سوناتات للبيانو، حرام أن نتركَ الشريط فارغًا.

كنتُ لأول مرَّة أسمعُ كلماتٍ مثل: سيمفونية، سوناتا، كورساكوف، وكذلك كان أبو الكيف، لكنّ ذلكَ لم يكُن يعنيه، قال بعد خروجنا:

– سنسمع بطيخوف هذا، حين عودتك من بيتِ عَمَّتك، سلّم لي على كلِّ أهل باب الحديد.

– غدًا سآتي إلى الكراج، أوصاني أبي على كيلو مبرومة بالفستق.

ضحك أبو الكيف: ستنقصُ قطعة واحدة بالتأكيد.

– صحّة على قلبك، نعرف ضريبة إرسال حلويات معك!

قال أبو الكيف، وهو ينظر إلى سَلَّة التين التي أنزلتها من بوسطته:

– يعني بنت عمّتك لا تتوحَّم في كلّ بطنٍ لها، إلا على التين الإدلبي؟!

فضحكت: تتوحَّم عليه.. حتى قبل أن تحبَل.




المصدر