ذهنية “الفوات” القاتلة وموت (ابو الفضل)


جمال الشوفي

تصدرت أخبار اللغم الذي انفجر في (أبو الفضل) في مدينة الباب الشمالية، عناوين كثير من قنوات الإعلام والصحف المعارضة والثورية معًا، والعنوان الأبرز فيه أنه “كان يعلم أن الخطأ الأول هو الخطأ الأخير” في مقاربة واضحة لحجم العمل ودقته التقنية التي لا مجال للخطأ فيها، وتبدو هذه الصورة حقيقة علمية، هذا إذا ما افترضنا أن أدوات الرجل التقنية كانت كاملة، ومرد الخطأ حين ذاك هو خطأ شخصي محض! فحيث إن موضوعات الخطأ تؤوّل بثلاث: خطأ مادي يتعلق بأجهزة القياس، وخطأ بشري يتعلق بالشخص ذاته، وخطأ طارئ، يسميه الفيزيائيون، غير الملحوظ يقينًا في معطيات الواقع العيني. فهل كان خطأ “أبو الفضل” واحدًا من تلك الثلاثة؟ أم ثمة شيء لم يرقبه إعلام الثورة جيدًا، ليعدّ خطأه الخطأ الأخير، في إشادة واضحة لمفهوم التضحية الممجد في الموروث النقي للوجدان الشعبي، وإغفال متعمد عمّا خفي في مسيرة الرجل، ومثله كثير من السوريين الذين يقضون بصمت، ولا نعلم بهم إلا بعد فوات الأوان، في التاريخ القريب والحاضر المرير الذي نعيشه!

أحمد محمد النعساني، والمكنى بـ (أبو الفضل)، والد شهيدين، وصار من الممكن أن نقول والد ضحيتين سوريتين، في مسيرة الموت السورية المعلنة جهارًا وصراعها مع الحياة. هو الرجل التقني والفني في عالم الكهرباء، والمعروف عنه، من قبل عام 2011 قيامه بأعمال تصليح الأدوات المنزلية، ويتعاقد معه كثير من المصانع في ذلك. استفاد من خبرته التقنية، بأدوات بسيطة، بإزالة 60 في المئة من الألغام التي زرعتها (داعش) في منطقة الباب السورية، بعد تحريرها من قبل قوات درع الفرات. ويقول من عرفوه إنه حاول مرارًا وتكرارًا أن يقنع المسؤولين في المدينة بأن يقدموا له أدوات تقنية حديثة، تساعده في إزالة الألغام الموجودة في المنطقة، لينقذ الناس من موت محتم أو عاهة مستديمة على أقل تقدير. لكن ولـ “خطأ” غير مرقوب إلى اليوم وغير مدقق إلى الساعة، أثارت حفيظة مسؤولي المنطقة وقادتها السياسيين، قدرة الرجل على اكتشاف أماكن الألغام بنباهة وحذاقة الخبير الشخصية، التي إن دلت فإنما تدل على خبرة الشخص وقدراته الفردية؛ ما جعل “الفأر يلعب بعبهم” في أنه كان يقوم بزرعها مع (داعش) أيام كانت موجودة في المنطقة! ما جعله محط شكوك ومراقبة دائمة، أضف إلى ذلك رفضهم التعاون معه في تأمين المعدات التي طلبها من متنفذي المنطقة واللازمة لإزالة تلك الألغام! مع أنه أكد -وأكد كثير من معارفه- أنه بقي ملازمًا بيته طوال وجود (داعش) في المنطقة، ولم يُظهر أيًا من قدراته الفنية حينئذ، كما أظهرها قبل ذلك وبعده في خدمة السوريين والثورة!

حتى تكون ثوريًا عليك أن تعدد عدد المرات التي اعتقلت بها! وليس هذا فحسب، بل طول المدة التي قضيتها! وحتى تتبرأ من تهمة التعامل الأمني عليك أن تموت في أقبية الفروع الأمنية! أو تقدم دليلًا واضحًا على براءتك بأن تردد شعار إسقاط النظام، وكأنك تردد شعار الرسالة الخالدة! لتثبت ولاءك “الثوري” كما “البعثي” لسلطة القمع والاستبداد؛ فتنال المناصب والمكافآت وغيرها، سواء كنت كفؤًا أم لا!

ذهنية التخوين التي تربّى عليها منتفعو البلد، وهذا البلد الذي نرغب أن يكون وطنًا، ويبدو أنهم ينقلون تلك الثقافة ويتوارثونها أيضًا، فما زالت معيار الوجود السياسي والمتسلط إلى اليوم، والثورة التي ضربت قاع المجتمع السوري في كل تعيناته لم تمس، بعدُ، كلية محتواه الذهني والثقافي، بقدر الأبعاد السياسية المتعلقة بالسلطة وشهوة الحكم! هي العقلية ذاتها التي وضعت السوريين عقودًا في تهمة التخوين الوطني، وعفت أصحاب الاختصاص من الاستفادة من خبراتهم في بناء الدولة والمجتمع، بقدر ما قدمت ذوي النفوذ والولاءات عليهم، فأفسدوا البلد وعاثوا فيها ظلمًا وتكبرًا وتجبرًا. إنه العفن التاريخي القابع في الموروث السياسي والثقافي لبنية المجتمع، فالمتهم مدان حتى تثبت براءته، و”المشروعية الثورية” لحزب البعث، وكل نظم التسلط السابقة واللاحقة، تمتلك الأساليب ذاتها في التقويم والممارسة، حتى باتت غواية في ممارسة التشتت والإقصاء وأساليب الحكم القروسطية.

في مقاربة مثيرة للاهتمام، تميز الكاتبة الألمانية الأصل، الأميركية الجنسية (حنة أرندت)، في كتابها “في العنف”، بين حركات التحرر الوطني بوصفها حركات تضرب في عمق المجتمع بكل بنياته، وبين مجرد الغضب العارم من دون وجود تغيرات بنيوية في مسيرتها، وتقول: “إن الخلط بين الانفجار الغاضب، وبين حركات التحرر الوطني، معناه التنبؤ بإخفاق هذه الأخيرة، فضلًا عن أن الانتصار، غير المرجح على أي حال، لن يسفر عن تغيير العالم (أو النظام) بل عن تغيير القادة”، وهذا اليوم هو مسير الثورة السورية، حيث لم تستطع مؤسسات الثورة أن ترتقي لمستوى تضحيات الشعب السوري، ولم تمس بالعمق وعلى المستوى الجمعي، مكنونات شارعه وقدراته، والاستثناءات الفردية في هذا السياق، هي جهد الأفراد الذاتي في إيمانهم بحريتهم وقدراتهم وإمكان تسخيرها لمصلحة الكل المجتمعي، كما حدث مع “أبو الفضل” والآلاف غيره، ليبقى الاستئثار بالسلطة هو الهدف الأوضح لخلاصة العمل السياسي المعارض إلى اليوم، ودلائل ذلك اليوم متعددة ومتنوعة، بدءًا من تراجع ركائز المشروع الوطني، وهزالة مؤسسات الثورة السياسية والتنفيذية، وبقاء العقلية والذهنية البيروقراطية ذاتها من محاصصة ومحاباة شخصية في تعيناتها وإدارتها. هذا إذا ما أضفنا لهذا كله التشظي المعرفي والسياسي والتعثر المستمر في قراءة الأحداث والتنبؤ بمسيرتها، ونمو مطرد لحملة المشاريع المحلية والطائفية مصبوغة بحملة إعلامية إقصائية تنفي خلافها ذهنيًا وأداتيًا، معيدة إنتاج الاستبداد ذاته، لتطفو على السطح ذهنية الفوات والتأخر التاريخي التي وصفها وفندها المرحوم ياسين الحافظ في “الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة”، تمارس فعلها في تقويض الإمكانات والقدرات الذاتية للأفراد، حين تعدّ “أناها” وأهواءها وظنونها هي القانون، فتحيل الشبهة بدل الحقيقة والمعيارية والتدقيق وبالضرورة العقلانية.

ربما -وهذا للتساؤل والشك وبالضرورة للتحقيق والتيقن- كان من الضرورة التيقن من مسيرة “أبو الفضل” وارتباطاته الأمنية، يقول قائل. وكان هذا حق لو أنه كان سيعمل في صدارة الحدث السياسي، بحيث تكون الخشية من أجندته موضع تيقن وتدقيق، لكنه وهو يعمل -وكأنه انتحاري- في إزالة الألغام، كما يعمل كثير من السوريين بصمت لأجل المصلحة العامة، فهذا ما يشير مرة أخرى إلى شبهة التمويل التي يحصل عليها ما يسمى اليوم منظمات عمل مدنية، وجهات متنفذة وكيفية الاستفادة منها. وهذه بمفردها ملف كامل في الانتفاعية المحضة التي درست في أكثر من مكان، ولا تتيح هذه السطور دراستها. من هنا يصبح النقد هو الجانب المكمل والضروري لتسليط الضوء على أخطائنا، أخطاء الثورة القاتلة كل فترة من الزمن، والمتكررة يوميًا بعيدة عن المراقبة، وبعيدًا عن تغلغل الثورة بعد في ذهنية العفن التاريخي وتفنيد أخطائها القاتلة. تلك الأخطاء التي قتلت “أبو الفضل”، قبل أن يقتله انفجار اللغم، كما قتلت كثيرًا من السوريين بتهم التخوين وشبهة الانتماء، فقط لتفوقهم وإمكاناتهم، قبل أن تقتلهم آلة القمع والاستبداد سواء في المعتقلات أو بآلة الحرب الهمجية. فما دامت الخبرة والاختصاص والإمكانات الفردية هي التهمة التي حارب بها النظام أبناء هذا المجتمع، هي ذاتها التي تميز معظم مؤسسات الثورة فما زلنا بمخاض الولادة العسير والطويل، وما زال السوريون يعايشون واقع الثورة، وكأنهم في حقل ألغام، لا يعرفون وقت انفجاره بهم، ما لم نمتلك الأدوات الفعلية الحقيقة للنقد والبدائل الممكنة والمصححة لمسار الثورة الطويل.




المصدر