لماذا قتلوا الغناء؟ سؤال بلا جواب في عرض مسرحي


لماذا قتلوا الغناء؟ سيظل السؤال يشاغلك طوال مشاهدتك لعرض «يوم أن قتلوا الغناء»، الذي كتبه محمود جمال وأخرجه تامر كرم ويعرض حالياً على «مسرح الطليعة» في القاهرة.
إلحاح السؤال سيفسد عليك كل محاولات الكاتب لأن يصنع نصاً يشبه بأجواء الأساطير اليونانية والسير الدينية، ظناً منه أن «المقولات» و «سجع بعض الحوارات» يمكن أن يصنعا وحدهما نصاً عظيماً.
في القاعة ستسمع تصفيق بعض الحاضرين تجاوباً مع كلمات سيحرص الممثلون على أن يلقوها مشفوعة بملامح جامدة وحركات عصبية، لكنك إن تأملتها ستجدها مثيرة للضحك أكثر منها مثيرة للشجن ومن ثم التصفيق. ولتقرأ مثلاً: «إن الدفء يأتي من البرد، والبرد وقود النار».
هكذا تدور حوارات الشخصيات المنمطة سلفاً، والتي يمهد لها صوت راوٍ غائب يحكي لك عن أصل ما يصفه بـ «الأسطورة»، والتي تتلخص في شقيق شرير وآخر خيّر، الأول ظن أن رمز الخير تجسَّد في صورة قاطع طريق جرَّده من ملابسه ذات شتاء قارس بعدما ألقى عليه الحكمة الاكتشاف: «الدفء يأتي من البرد»، فيقرر أنه اختاره لهداية البشر، فيبني له معبداً ويدعو الناس إليه، ثم سريعاً ما يصير هو الحاكم الذي يصدر قراره الوحيد بمنع الغناء… لماذا؟ لا تسأل، فالسؤال سيفسد ما يشرع الكاتب في صنعه.
أما الشقيــــق الثاني فقد نذر عمره لبناء سفينة، منتظـــراً الطوفان ليحمل سفينته بأتباعه إلى أرض أخــرى. وهنا أيضاً لا تسأل لماذا يبني سفينة في صـحراء، ولماذا لا يركب جملاً أو يسير على قدميه إن أراد الهروب من هذه القرية الظالمة؟
لا تسأل، فالسؤال سيفسد عمل الكاتب، والكاتب يشرع في كتابة عمل يريده تراجيدياً فلسفياً قد لا يستوعبه أمثالك وأمثالي. فها هو يخلق عالمين من الأشرار والأخيار، بل وسيجعل الحاكم يربّي رضيع مَن قتلها لارتكابها جرم الغناء، وسيفاجأ بأنه يحمل من القوة الجسدية ما لا يحمله جيش كامل، فيستخدمه في قتل أعدائه الذين هم مغنون بسطاء لا يعملون شيئاً في الحياة سوى بناء هذا الوهم المسمى سفينة.
ولأن المآسي الكبرى لا بد لها من أحداث كبرى لتكتمل، سيوقع المؤلف هذا الابن في غرام واحدة ممَن يغنون. بل إنه سيعــشقها أكثر حين تبصق في وجهه. نعم، بل يقرر الثورة على نفسه وعلى رمزه وعلى قانونه الجائر بتحريم الغناء.
وهنا أيضاً لا تسأل: لماذا؟ ولأن عصب النص أصابه سوس الأسئلة، سيغرق المؤلف شخصياته في تناقضات تفسد كل محاولاته لأن يصنع منهم «أبطالاً تراجيديين»، فها هو الحاكم يسأل رمزه: «لماذا لا تظهر لي وتحدثني؟»، وكان يمكن قبول هذا السؤال على اعتبار أن الرمز ليس إلا صنماً صنعه كاهن زائف، لكن الأخير سيظهر بالفعل للابن ويعاقبه على عدم رضوخه لأوامره بقتل من يغنون.
وهنا لا بد لك من أن تسأل: هل هو رمز حقاً أم محض وهم؟
وإن كان رمزاً، فلماذا يدان «كاهن» صدّقه ونفَّذ رغباته؟ وإن كان وهماً فمن أين جاء بقدرته على معاقبة من يخون أحكامه؟
مرة أخرى لا تسأل، فأسئلتك تعرقل تدفق الأحداث. فقط اكتفِ بما تسمع من حكم ومواعظ وصفق مع المصفقين. مع نص كهذا لا بد أن تشفق كثيراً على مخرج قالت أعمال سابقة له إنه يتمتع بموهبة وبمقدرة حرفية، فقد تابعتُه منذ أن كان هاوياً وتوسمتُ فيه مخرجاً كبيراً بعدما تسلَّح بالدراسة التي تدرج فيها حتى أصبح أستاذاً يعلم آخرين فنون الدراما والإخراج، وينبههم إلى أساسيات الفعل الدرامي التي تتراوح بين «الضرورة والاحتمال»، فكيف قبِلَ تامر كرم نصاً لا تنطلق أفعاله من ضرورة ولا احتمال؟
ولأن القاعدة البسيطة تقول: «يمكنك أن تصنــــع من نص جيد عرضاً سيئاً، لكن لا يمكنك أبداً أن تصنع عرضاً جيداً من نص سيـــء»، تمثَّلت النتيجة الحتمية في عرض لم ينجــــح في أن يتجـــاوز سيئات النص عبر أداء ممثلين بذلــــوا جهداً مضاعفاً لإضفاء ملامح بشرية على شخصيات كرتونية، وعبر تشكيلات تخفف من حــدة ثرثرة الحكم والمواعظ، وعبر موسيقى وغناء يخففان ثقل السؤال الملح: لماذا تسير الأحداث على هذا النحو الساذج؟



صدى الشام