منذ عقود سورية كما هي


هيفاء بيطار

لا يُمكن فصل الأحداث وعقلية السلطة الحاكمة منذ عقود، وأجدني، من وقت إلى آخر، أربط تذكر حادثة في الحاضر بأحداث حدثت في ماض بعيد، اعتقدت أنني نسيتها، ففي بداية مشواري الأدبي والصحفي معًا” حيث كنت أكتب مقالات عن حياة السوري الذليلة في جريدة الوحدة باللاذقية. كتبت ذات يوم مقالًا “لم أتوقع أنه سيُغصب المسؤولين في الدولة بذلك النوع من الغضب الذي تشعر أن صاحبه يتمنى خنقك أو إيقاع أقسى العقوبات بك. كان مقالي وقتها يحمل عنوان (لم تعد اللاذقية القديمة موجودة، كما حلب القديمة ودمشق القديمة)، فقد هُدمت في اللاذقية معظم الآثار من بيوت وقصور وكل ما يجعلنا نفخر باللاذقية القديمة، ولم أمنع نفسي من السخرية؛ ففي ساحة الشيخ ضاهر وسط اللاذقية وحول تمثال حافظ الأسد أنشؤوا العديد من نوافير المياه! كما لو أن اللاذقية تنقصها رطوبة. وفوجئت بمدير البلدية يتصل بي وهو يستشيط غضبا، وقال إن مقالي مؤذ وتافه. وبالكاد استطعت أن أقطع نوبة غضبه حين سألته: أين هي اللاذقية القديمة؟ فصعقني بجوابه بأن عليّ أن أفخر بما قامت به الدولة من تحطيم الأبنية الأثرية في اللاذقية لأنها كانت ملاذا وموقعًا تخفى فيه الإخوان المسلمين، وكان واجب الدولة، كي تقضي على الإخوان المسلمين، أن تحطم كل تلك الأبنية الأثرية على رؤوسهم. كما يحصل اليوم حين تحطم الدولة العديد من الأبنية والشوارع لقناعتها أن “إرهابيين” يختبئون فيها. كان هذا المقال آخر عهدي بالكتابة في جريدة الوحدة؛ وبعدها صرت أكتب زاوية أسبوعية في الصفحة الثقافية لجريدة الثورة، وذات مرة (وأنا طبيبة عيون في المشفى الوطني) كتبت مقالًا من صميم واقع اللاذقية، أحكي فيه عن الرِّشا الفظيعة التي يقبضها أطباء العيون المتعاقدين مع الجيش كي يعفوا شابًا غنيًا من الخدمة الإلزامية، إذ إن طبيب العيون المتعاقد مع الجيش وحده من يملك قرار إعفاء الشاب من الخدمة العسكرية أو تحويله إلى خدمات ثابتة؛ وفي الواقع تلقيت تقريعًا أو ربما “تهديدا” وألغوا كتابتي في جريدة الثورة؛ بحجة أن الأطباء المتعاقدين مع الجيش السوري “لهم قدسيتهم كالجنود تمامًا” وبأنني لو أردت التحدث عن الفساد الطبي، فالمجال الوحيد المتاح لي أن أتحدث عن الفساد الطبي بشكل عام باستثناء أطباء الجيش. ولم يكن أطباء العيون المسؤولون عن الإعفاء من الجندية هم وحدهم من يرتشون؛ فكم من أطباء شاعت أسماؤهم كانوا يشخصون زورًا، ونفاقًا، وفسادًا أن الشاب إياه مصابٌ بالتهاب كولون قرحي، ويحضرون صورًا شعاعية لمريض مصاب بالتهاب الكولون القرحي. كل تلك التصرفات كانت “الدولة” على علم بها؛ لكنها تتكتم عنها من أجل سمعة “الجيش العربي السوري”. وأخيرًا انفتحت لي جرائد بيروت كلها؛ لأكتب في (النهار والسفير والحياة) من دون أن يُغيروا لي كلمة أو حتى حرف جر. حينئذٍ عرفت معنى الحرية الحقيقية، وهو أن تكتب الحقيقة، من دون خوف من عقوبة أو طرد أو تهديد. ودارت الأيام، ورُشّحت لحضور المؤتمر العالمي للكتابة، حيث يشارك ثلاثون كاتبًا، من جنسيات مختلفة في مؤتمر الكتابة العالمي في جامعة (أيوا) في أميركا، وكان قد شارك قبلي الصديقان خالد خليفة ونهاد سيريس، ولما اتصل بي مدير المركز الثقافي السوري في دمشق، وهو السيد عبد الرؤوف عدوان، وقال لي إنني المرشحة السورية الوحيدة للمشاركة في هذا المؤتمر الذي يستمر ثلاثة أشهر، وطلب مني أن أقوي لغتي الإنكليزية. وفعلًا انتسبت لمدة ثمانية أشهر إلى القنصلية البريطانية، وذات يوم حدثني -هاتفيًا- السيد عبد الرؤوف عدوان وقال لي إن موظفتين أميركيتين ستزوران اللاذقية، وهما موظفتان منذ أربع سنوات، في المركز الثقافي الأميركي في دمشق، وفرحت كثيرًا  بلقائهما الذي استمر نصف ساعة فقط في الكازينو، لانشغالهما بمواعيد أخرى وقد أحضرتا لي كتابين، من روائع الأدب الأميركي  المعاصر. وفي الواحدة بعد منتصف الليل رنّ موبايلي، واعتقدت للوهلة الأولى أنني أحلم، ثم رجحت أن أحد المرضى يتصل بي، فأتاني صوت رجل قال لي مباشرة: غدًا صباحًا تتفضلين لشرب فنجان قهوة في مبنى أمن الدولة. قفزت من سريري كما لو أن عقربا لدغني، فقلت له: ما السبب؟ فأجاب: لا أستطيع أن أقول لك السبب فالتلفونات مراقبة. فرددت عليه، بعفوية: ألستم أنتم من يراقب التلفونات. فزجرني وقال: لا يحق لك أن تسخري من أمن الدولة. وأظن أن شدة خوفي جعلتني أتهور وأجازف، وأقول له: لن آتي. إذا أردت مني شيئًا فتعال أنت إلى عيادتي. ومن العجب أنه وافق. قمت أجلس في ظلام الليل أقلب احتمالات استدعائي لأمن الدولة! وخطر في بالي أنني، في ذلك الوقت، لأني أكتب في مجلة العرب القطرية، إنما في الصفحة الثقافية فحسب. وأخذت أقلب الاحتمالات فقد يكون زميلٌ ما قد كتب بي تقريرًا” وقدمه لأمن الدولة، وشككت أن نور النهار سوف يطلع، وبكل صدق كانت مفاصلي تتقصف من الرعب؛ إذ يكفي استدعاؤك إلى أمن الدولة حتى يبتلعك الذعر. وأخيرًا التقيت بالسيد ياسر وخطر لي أن أسأله: لماذا تتصل في منتصف الليل، لكنه عاجلني بسؤاله اللئيم الحقير: هل تمكنتِ من النوم البارحة؟ فأجبت مفتعلة ضحكة سماوية نمت نومًا عميقًا، ولم أستطع الصبر. فقلت له: خيرٌ. ما التهمة التي فصلتوها لي؟ فقال: ببساطة نريد أن نعرف ما الذي دار بينك وبين الأميركيتين. فصعقني جوابه، وتساءلت ترى أي ملاحقة لي أو للأميركيتين؟ وتابع بثقة: نحن نخشى من الأميركيتين أن تتلاعبا بعقولكم أو أن تمررا من خلالكم أنتم المثقفون مخططات. يا للعجب، قلت له: وهل أن بلهاء حتى تمررا من خلالي مخططات، ولماذا لا تكونون أنتم -جهاز أمن الدولة- من يريد التلاعب بعقولنا، وتابعتُ: الأميركيتان موظفتان في المركز الثقافي الأميركي منذ 4 سنوات، وكانت إحداهن، واسمها “باميلا”، مستشارةً ثقافية للشيخ زايد لسنوات طويلة، وإذا كانتا موضع شبهة إلى هذه الدرجة، فلماذا لا تطردونهن من سورية؟ فقال: لنعرف ما تخططان له. وانتهت المقابلة بأن أعطاني السيد ياسر شرف أن يرسل زوجته وأولاده لأفحص عيونهم، وطبعًا “مجانا”، ولم يمر يومان حتى اتصل بي السيد ياسر من أمن الدولة، وقال المُعلّم يريد مقابلتك، فطاش صوابي من الغضب، وتساءلت أي إذلال نتعرض له وما تهمتي إن كنت سأشارك في مؤتمر عالمي للرواية، ونبهني بعض الأصدقاء أنني قد ألتقي مثقفين من “إسرائيل”، في الحال فاقت ضربات قلبي المئة وعشرين ضربة ذعر. ستكون أكبر تهمة أن ألتقي بمثقفين “إسرائيليين”. وأخذ خيالي يفرز صورًا متعمدة بالذعر لدرجة أني فكرت أنه لو جلس بجانبي “إسرائيلي” فيجب أن أرمي نفسي من الطائرة. وشُحطت بعد يومين إلى المعلم رئيس أمن الدولة، وصعقتني أناقة مكتبه، وسألني هل تأذنين لي أن أدخن، وحدثني أنه يكتب الشعر مذ كان في العشرين، ووجدتني أخرج من حقيبتي كارت الأميركية “باميلا” وكارت مساعدتها وقلت له: أظن هذا ما تريده. وأخذ يتنقل من موضوع إلى موضوع، ومرر عبارة سوف نرسل ذات يوم وراء ابنتك الوحيدة لنعطيها نصائح. هنا شعرت بالتهديد الحقيقي فقلت له: ابنتي محصنة من الخطأ وتربيتها ممتازة. لا أعرف ذعرًا كالذي أحسسته في مكتب رئيس الدولة، وقد أذهلني فعلًا أنه يهددني بابنتي. ومرت أيام وسنوات وبدأت الثورة، وكنت من حين إلى آخر أتابع برامج التلفزيون السوري، واستعدت الآلام ذاتها، وأنا في بداية عهدي بالكتابة، وأحب أن أختم ببرنامجين الأول عنوانه “طلقة الغدر” كما لو أن العدو وحده يطلق طلقات الغدر على “الجيش السوري”، وكم من مجندين سورين قتلهم النظام لأنهم رفضوا إطلاق النار على إخوتهم الذين يرفضون القتل. وهل يمكن للطلقة أن تكون طلقة غدر؟ وكم من مجندين فرّوا ودفع أهاليهم مبالغ طائلة للمهربين كي ينجوا بأولادهم من اللقب الفخري (الشهيد البطل) والبرنامج الآخر هو يوم اليتيم السوري، وقد جمعوا حفنة من الأطفال، يرقصون كالبهاليل ويدقون بالطبول. ولم يسألهم أحد ما شعورهم، وقد فقدوا أمهم وأباهم؟ حولوا هؤلاء الأطفال الذين شهدوا المجازر وأصبحوا أيتام. قدمتهم الإخبارية السورية كبهاليل التاريخ. طوال أكثر من أربعة عقود ظل الرعب والذل وانعدام القيمة تغلف كل سوري. هذه بعض اللقطات من المشهد السوري الذي لم يتغير منذ عقود. لم يعد بإمكاننا سوى انتظار معجزة تنقذنا من هذا الجحيم.




المصدر