تظاهرات السويداء تحيي ثقافة المواطنة وروح الثورة السلمية
16 مايو، 2017
ميسون جميل شقير
اليوم، وبعد كل هذا الخذلان الذي لم يعرفه شعب في العالم، كما عرفه الشعب السوري. اليوم وبعد كل العنف والقهر والرعب الذي عاشه هذا الشعب، العنف الذي ربّوه فينا، مثلما ربّى هذا العالم فينا إحساس اللاجدوى، والخيبة، وجعلنا بعد ست سنوات نتحول إلى أناس بلا حلم، أناس تعيش حالات فصام هائلة بين تشتت وتهجير قسري، وبين تشرد وموت منظَّم وممنهج.
اليوم، وبعد موت المئات من الشهداء، وبعد موت الحياة في عيون المعتقلين وعيون من ينتظرهم، بعد كل هذا التحول في خطاب الثورة الأصلية، وظهور كل هذا التطرف الذي عمّره ظلم النظام وتواري الأمل، بعد هذا التحول الذي غيّب تمامًا شعارات الثورة الأولى، وجعل الشعب السوري في غمرة هذه التغريبة يفقد الثقة في كل من حوله، وفي نفسه أيضًا.
اليوم تأتي تظاهرات مدينة السويداء في الجنوب السوري، وتعيد لنا التاريخ إلى ما قبل ست سنوات مضت، تأتي على الرغم من أن السويداء ليست من المناطق المحررة القادرة على الخروج بتظاهرة، من دون أن يشعر كل شاب وشابة بأنه يحمل روحه على كفّه، وتأتي على الرغم من أن الجو العام للناس البسيطة في المحافظة هو جو لأقلية زرع فيها النظام، طوال أربعين عامًا، رعبًا طائفيًا ممنهجًا ومدروسًا، وجعلها تشعر بأنه وحده الذي يحمي وجودها. هذا الجو الذي يشكّل بحد ذاته عامل رعب آخر للمتظاهرين، ويضيف من صعوبة وتحدي خروج التظاهرة، ويجعلنا، بعد أكثر من مئة شهيد تحت التعذيب من السويداء تحديدًا، ندرك أي تحدٍ يقوم به هؤلاء الشباب الذين ما يزالون يخرجون في تظاهرة ليحموا الثورة أحلامَها، الشباب الذين يرفعون شعارات تذكّر بالمنبع الإنساني الغني الذي خرجت منه هذه الثورة، وتؤكد على وحدة التراب السوري، وعلى رفض أي فكرة تلوح الآن في الأفق لتقسيم الأم سورية، مثلما رفض ذلك سلطان الأطرش حين عرض عليه الفرنسيون إقامة دولة ذات بعد طائفي في منطقة جبل العرب، شعارات أهمها “لا لتقسيم سورية”، “لا للموت تحت التعذيب”، “لا لاعتقال الناشطين السلميين”، “لا للتهجير القسري”، “لا للتغير الديموغرافي”، “لا لاختلاف الفصائل فيما بينها”، “لا لقتل الثورة من خلال وجود مجموعات لا تعبّر عنها”، “لا لقصف البيوت والمدن”، “السوري لن يموت”، “سورية حرة حرة والسويداء حامية الثورة”، “سورية أم التاريخ، لن تقبل التقسيم”.
هذه التظاهرات التي خرجت في يوم عيد الجلاء، ويوم ذكرى وفاة “سلطان الأطرش”، قائد الثورة السورية الكبرى، ويوم الحادي عشر من هذا الشهر، تذكر بنوعية الحراك الثوري المميز الذي كان يعمّ كل الأرض السورية في السنوات الأولى للثورة، وتذكّر بأن أول بيان لمحامين سوريين رافضين للعنف الذي مارسه النظام، ومساندين للثورة السلمية المدنية كان بيان المحامين في السويداء، ووقّع عليه أكثر من مئة محامٍ سوري، في الشهر السادس من عام 2011، حين حاصر النظام بناء نقابة المحامين واعتقل عددًا منهم، وتذكّرنا بأن عدد المعتقلين الذي اعتقلهم النظام بعد تظاهرة السويداء، في صيف عام 2011، كان يفوق خمسين شخصًا، وأن هؤلاء الخمسين كانوا ستة أساتذة جامعيين، وأربعة أطباء، وثلاثة أطباء أسنان، وأربعة شعراء -أحدهم الشاعر فؤاد كحل- وستة مهندسين إضافة إلى رسامين وفنانين تشكيليين، والباقي كلهم من الجامعيين، وبالتالي فهي تذكر بمدى نوعية الحراك الثوري في هذه المحافظة، كما يعيد إلى أذهاننا مدى العنف الذي واجه فيه النظام التظاهرات، وعدد الأجهزة الأمنية والجيش التي وزعها في كل مكان في المحافظة ليمنع خروج أي تظاهرة، ويذكرنا بالشيخ البلعوس الذي شكّل ظاهرة قوية لدرجة أن النظام قتله هو ومعه ما يزيد على ثلاثين شهيدًا آخر في مجزرة حقيقية، فقط لكي يتخلص منه ومن أتباعه لخوفه من انتشارهم، مما يدحض زعم النظام الدائم وحجته المعلنة بأن الثورة هي ثورة إسلامية طائفية، وليست ثورة مدنية سلمية.
التظاهرات اليوم تذكرنا بأهالي مدينة شهبا الذين خرجوا يحملون حياتهم على أكفهم، وذهبوا إلى أهل قرية الحراك في محافظة درعا ليشاركوهم تظاهراتهم الرائعة، وليؤكدوا أخوّة السهل والجبل.
هذه التظاهرات اليوم، وعلى الرغم من بعض الردود السلبية التي تلاقيك على بعض صفحات الثورة، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، فإنها، وكل التظاهرات السلمية المدنية، تشكّل صمام الأمان لثورتنا النبيلة، الصمام الذي يعيد للثورة فينا، قلبها الذي لا يموت.
فحين نسمع هذه الأصوات تهتف بكل تلك القوة والوحدة والحماس، نحس بأننا لم نزل نمتلك بعضًا من غدنا، وأن هذه الألفة كافية لحماية كل من يمتلكها. إن كل من يهتف بقوة في هذه المحافظة التي لم تزل تزرع العنب وحب الضيف والطيبة والبساطة، والتي لم تزل تحتضن عددًا كبيرًا من النازحين الذين يمثّلون ثلاثة أضعاف سكانها، يقول لنا بقصيدة زيد الأطرش، وصوت أسمهان “يا ديرتي مالك علينا لوم… يا ديرتي لومك على من خان”.
[sociallocker] [/sociallocker]