نوار بلبل: الفنانون الموالون لنظام الأسد هم “فنانو بلاط”


بين عُمره في المسرح وعمره الحقيقي ليس هناك فرق كبير، فقد ترعرع على الخشبة. فاز بالعديد من الجوائز الدولية، وكسر الخطوط الحمراء في سوريا قبل الثورة عبر مسرحية “المنفردة”. هو الفنان والممثّل نوّار بلبل، الذي لم يكتفِ بموقفه المناهض لنظام الأسد، بل كرّس جزءاً كبيراً من وقته للاجئين السوريين من خلال تقديم عروض مسرحية.
وفي حوار مع صحيفة صدى الشام، لم يُخفِ بلبل انتقاده لأوساط المثقفين السوريين الذي تخلفوا عن الثورة فعلياً، معتبراً في الوقت ذاته أن الأعمال الفنية “الثورية” لم تلقَ دعماً من القنوات التلفزيونية العربية الكبرى الساعية لإبقاء شعوبها فيما أسماه “بيت الطاعة”.

وفيما يلي نص الحوار:

-من هو نوار بلبل؟

أنا نوار بلبل، خريج المعهد العالي للفنون المسرحية قسم التمثيل في عام 1998، بدأت بالعمل الفني في عام 2013، وعملياً كنت أبحث عن نفسي خلال هذه السنوات، ومن أنا وماذا يجب عليّ أن أفعل، هل يجب أن أحصل على جوائز؟ نعم حصلت على جائزة أفضل ممثّل لـ 4 مرات في عدّة مهرجانات دولية، وحصلتُ على جائزة أفضل عرض أيضاً، لكن هذا الشيء لا يعنيني كثيراً لأنني كنت أحوم دائماً حول دائرة، ولا أعرف تماماً لماذا أقوم بالإنتاج المسرحي، كنتُ أفضّل أن أكون أحسن مخرج وحصلت على ذلك، لكن هل استطعنا أن نجابه النظام أو نسمح بزيارة معتقل؟
أنجزتُ قبل اندلاع الثورة عرضاً مسرحياً تحت مُسمّى “المنفردة” وتجاوزنا حينها، إلى حدٍ ما، الخطوط الحمراء التي كانت مفروضة على كل الشعب السوري، فالمثقفون دائماً ما يقولون أنهم هم الثورة وكانوا يحاولون جرح النظام والتأثير فيه بثورة فنية أو ثقافية، ولكن مع انطلاق الثورة السورية خرجَ أول ثائر متهوّرًا شجاعًا ومجنونًا رافضاً الظلم ليسبق كل هؤلاء المثقّفين ويهتف للحرية وإسقاط النظام، حينها اعتبر كثيرٌ من الفنانين أن هذه ليست ثورتهم لأنها لم تخرج من بينهم، مبرّرين بأنها لن تكون ثورةً مؤثّرة طالما أنها خرجت من الجوامع، ويجب على الفنانين قيادتها، لكنني قلت إنني أقف خلف أصغر متظاهر لأنهم هم من صنعوا الثورة ونحن لم نصنع شيئاً.

عندما اندلعت الثورة السورية خرجَ أول ثائر شجاع رافضاً الظلم، ليسبق كل المثقّفين ويهتف للحرية وإسقاط النظام، حينها اعتبر كثيرٌ من الفنانين أن هذه ليست ثورتهم لأنها لم تخرج من بينهم.

-ماذا غيّرت الثورة السورية في نوار بلبل؟

بعد خروج المتظاهرين الشباب، نحن لم نكن نلبّي مطالبهم كمسرح وفن وسينما، وحينها كنت قد أنجزت مسرحية “المنفردة” وظننتُ نفسي أنني كسرت الخطوط الحمراء وأنني ثائر، ولكن عندما شاهدتُ المتظاهرين علمتُ جيداً أن المسرحية لا تُعتبر شيئاً أمام ما قدّمه أي متظاهر.
وبعد اندلاع الثورة، وفي عام 2013، دخلتُ إلى مخيّم الزعتري وعندما وجدتُ الناس المتعبين المرهقين المكسورين في اللحظة الأولى، كنتُ أفكر كيف لي أن أقف معهم، وكان ضرباً من المحال عمل مسرح في هذه الصحراء، لكني كنتُ مصمّماً على المحاولة، غير أن ما ساهم أكثر في إنجاح عرض مسرحية “شكسبير في الزعتري” التي مثّلها أطفال من اللاجئين السوريين، هو التعاون الكبير من قبل الأطفال وأهاليهم الذين رحّبوا بالفكرة على الرغم من أن أولويات حياتهم تنطوي على تأمين قوتهم اليومي في هذه الظروف المعيشية القاسية، لذلك فلم تكن المسرحية مع 120 طفلاً وإنما كانت مع 120 عائلة سورية في المخيّم، وبعد إنجاز هذه المسرحية اكتشفت أن كل ما كنت أقوم به هو هراء، لأن الهدف كان نرجسياً لأكون الأفضل، لكنني اكتشفت أيضاً أنه على الرغم من أن “شكسبير في الزعتري” لم تكن ذات ميزات فنية عالية إلّا أنها كانت الأهم بالنسبة لي على المستوى الإنساني.
كنتُ قبل اندلاع الثورة، أركّز خلال العمل على وجود خبير الديكور الفلاني، وأزياء معيّنة وإضاءة ملفتة، لكن ذلك كلّه تكسّر عندما رُميت في الصحراء وبدأت أعمل المسرح هناك، لأنجح بالنتيجة بفضل تجاوب الأطفال وأهاليهم.

بلبل: أكثر ما ساهم بإنجاح عرض مسرحية “شكسبير في الزعتري” التي مثّلها أطفال من اللاجئين السوريين، هو التعاون الكبير من قبل الأطفال وأهاليهم الذين رحّبوا بالفكرة.

-برأيك لماذا يوجد كثيرٌ من الفنّانين الذين وقفوا إلى جانب الأسد رغم كل ما حدث من فظائع؟

أنا لا أستطيع الحديث بلسان هذه الفئة من الناس، فهناك مهندسون وأطباء وعمال انحازوا للنظام كما فعل بعض الفنانين، وهناك فئة أخرى حاولت الحفاظ على مكتسباتها، وعلى الرغم من معرفتي بأن الإنتاج الفني لا يزال مستمرّاً في سوريا وتحت رقابة النظام، إلّا أن الفنّانين الموجودين هناك الآن هم “فنانو بلاط”، فكما كان للحكام والملوك القدامى شعراء ومسرحيون وموسيقيو بلاط، فإن الفكرة ذاتها تتكرّر اليوم في سوريا، لذلك قطعتُ علاقاتي مع الفنانين الموالين لأني اعتبرهم مثل القاتل ما داموا قد وقفوا إلى جانبه، ولن يغيّرني التعامل معهم مستقبلاً وسوف أحكم عليهم كما يحكم عليهم الجمهور، على الرغم من أن بعضهم ارتكب تصرّفاتٍ لا تُغفر مثل دريد لحّام، فلا يمكن أن يُغفر له بعد كل هذا العهر.

بلبل: قطعتُ علاقاتي مع الفنانين الموالين لنظام الأسد لأني اعتبرهم مثل القاتل ما داموا قد وقفوا إلى جانبه.

-هل حاولت أن تنصح أحدهم بعدم مساندة النظام؟

في بداية الثورة السورية وعندما كنتُ داخل سوريا، حاولت أن أنصح الفنانيين الذين كانت تربطني بهم علاقاتٍ قوية بحكم العمل المستمر والتصوير، وحاولت أن أشرح لهم فكرة الوقوف إلى جانب الشعب، لكنهم رفضوا ذلك وقرّروا أن يبقوا إلى جانب النظام منذ البدء، وفي هذه المواقف يَحكم الإنسان على نفسه فيما إذا كان فنّاناً أم لا.
كان الأشخاص في محيطي ينصحونني، ويقولون لي بإنني فزت بالعديد من الجوائز وحقّقت نجومية واسعة، وبإمكاني أن أخلع باب أي وزير أو مسؤول وأطلب ما أشاء، وإنني فنان ويجب أن أبقى فنّاناً للجميع، وألّا أهدم المشاريع التي كنتُ قد بدأت بها، لكنني رفضّت كل ذلك والتحقت بالثورة، ومن بعدها بدأ الفرز بين الفنّانين، واختار كل واحد طريقه.

-من المعروف أن والدك هو الكاتب المسرحي فرحان بلبل، وأن له العديد من الأعمال، فكيف تأثّرت بها؟

أنا ابن بيئة مسرحية بكل ما تعنيه الكلمة، وكانت نشأتي في فرقة المسرح العمالي التي تأسست في عام 1973، حيث ترعرعت في كنف الفرقة وعشت بروفاتها، وكيف كانوا يعانون لإنجاز العروض، وبالتالي لم أنفصل عن هذي الفرقة، وقد اخترت الدراسة في المعهد العالي للفنون المسرحية وقررت احتراف المهنة نتيجة شغفي الذي ولّده العمل في تلك الفرقة.
كانت الفرقة التي تأسست عام 1973 خلال صعود الاشتراكية، قد اختارت الدفاع عن الشارع السوري وطبقة العمال وصغار الكسبة والناس المسحوقين، وهذا المشروع ظلَّ قائماً حتى بداية الثورة، وأنا أعتز ببداياتي وفيها وتعلمي منها الكثير، فقد تعلمت منها النظام واحترام الممثلين لبعضهم بعضًا واحترام الجمهور.
وعندما تخرّجتُ من المعهد وبدأت أتلمّس طريقي كنتُ رافضاً لكل التيارات الدينية والسياسية، وكان همي الدفاع عن الإنسان، لذلك فإننا في مسرحية “المنفردة” دافعنا حتى عن إنسانية السجان، وحينها كان هناك كثيرٌ من الناس من الفرقة وقفوا ضد فكرة الدفاع عن السجّان، ولا يمكن الدفاع عنه، وثبت لاحقاً أن السجان مدان ولا يمكنني أن أدافع عنه لأنه قاتل وجلاد، ومع بداية سنوات الثورة تأكد ذلك.

-ما سبب انحدار الدراما السورية منذ بدء الثورة؟

الانحدار موجود قبل بدء الثورة بكثير، لكنه أصبح يحدث بشكلٍ شاقولي ومتسارع جداً بعدها، ففي سوريا كانت هناك بعض الأعمال القوية سابقاً، ليبدأ بعدها التدهور، أما السبب فهو أنك إذا سألت أي شخص عربي عن الدراما السورية يجيبك بمسلسل باب الحارة، ولكن هذا المسلسل لا يمثّل الدراما السورية الحقيقية.
الأعمال الجيدة كانت موجودة، ولكن الانحدار مع بدء اللجوء إلى دراما البيئة الشامية التي كنتُ قد أخذت أدواراً فيها، ولكنني كنت ممثّلاً وفرداً في جماعة ولم يكن لدي أي قرار.
إذا سألت النظام السوري اليوم عن المظاهرات التي خرجت في عام 2011 فإنه سوف ينكرها حتماً، ومن هذا المبدأ الدعائي الذي يحاول النظام تصديره إلى الخارج فإنه يعطي انطباعاً للعالم العربي بأنه يقوم بإنجاز دراما لكنها فعلياً سيئة! والدليل أنك إذا سألت أي مواطن سوري سوف يحدثك عن الانحطاط الأخلاقي الذي خلّفته هذه الدراما، فهناك من يقوم بعمل دراما وسينما في سوريا ولكن خدمةً لدعاية النظام وحسب.

لم تكن الدراما السورية بأفضل حال قبل الثورة، لكنها تدهورت بشكل متسارع بعدها، واليوم إذا سألت أي مواطن سوري سوف يحدثك عن الانحطاط الأخلاقي الذي خلّفته هذه الدراما.

-ماذا قدّم فنّانو الثورة خلال السنوات الماضية لخدمة فكرتهم؟

أريد العودة إلى مسرحية “شكسبير في الزعتري” هناك كنّا نحاول بناء مشروع وكانت المنظمات الدولية وأجهزة الاستخبارات تحاول تخريبه، لكن المشروع لم يمت، ونجح، وكذلك الثورة، على الرغم من كل ما يجري عسكرياً إلّا أنها لا تمت، لأنها غير مرتبطة بأي كيان، وفكرة “الشعب يريد إسقاط النظام” تعني إسقاط الأسد والمنظومة المعقّدة في سوريا كلّها.
في المقابل فإن الأعمال الثورية لم تلاقي دعماً للتعبير عن نفسها، إذ أن كل القنوات الكبرى ترفض عرض أي عمل ثوري لإبقاء شعوبها في بيت الطاعة، وبالتالي حتّى لو قُمنا بإنجاز أعمالٍ نوعية لن نجد أي جهةٍ لتدعمنا، وهذه القنوات التي رفضت عرض الإنتاج الثوري، ساهمت في منع إيصال فكرة الثورة، التي تسبّب رعباً في جميع أرجاء الوطن العربي، لذلك فإن السوريين يواجهون صعوباتٍ كبيرة في المغترب فكل الدول تحاول التضييق عليهم.
كل ذلك سببه أن الشعب السوري خرج من بيت الطاعة، ويجب إعادته إلى هذا البيت، للإبقاء على إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية مستقرّة، وبنفس الوقت فإن الأنظمة العربية ربّت شعوبها بالشعب السوري، ووضعت مصيره كنموذج لكل من يطلب الحرية، لكن رغم كل هذه الحرب فإنه لا توجد قوّة على وجه الأرض قادرة اليوم على إنهاء الثورة.



صدى الشام