الدولة الوطنية بين اللغو والمصطلح الدقيق

17 أيار (مايو - ماي)، 2017

عمر حداد

طرحت ثورات الربيع العربي مسائل مهمة على المجتمع السياسي، من مثقفين، وسياسيين، وأعادت السياسة إلى المجتمع، بعد استئثار السلطات الحاكمة بها، على مدى عقود؛ ومع هذه العودة، يعود فتح النقاش حول المفاهيم الفكرية، والسياسية، وقد يكون مفهوم الدولة الوطنية، من أهم هذه المفاهيم التي وجد العامل في الشأن السياسي نفسه أمامها.

إن مصطلح الدولة الوطنية، ليس حديثًا، أو وليدًا لم يتجاوز عمره بضعة شهور، أو سنوات، إنما هو من عمر الدول الحديثة ذاتها، وتعود نشأته إلى عصر النهضة الغربية، ونشأة الدولة القومية، فالدولة الوطنية هي دولة الأمة، أو الدولة القومية، وربما من المفيد هنا التعريج على مصطلح القومية أيضًا، في محاولة لإزالة الفهم الخاطئ الذي أدّى، لدى كثر من العاملين في الشأن السياسي، إلى وجود تعارض أو تناقض، أحيانًا، ما بين الوطنية، والقومية؛ فالوطنية والقومية مصطلحان يدلان على الشيء ذاته، وهو مجموعة الروابط العليا التي تربط بين سكان دولة ما، لتحول هذه المجموعة السكانية، من مستوى المجتمع المتنوع، إلى مستوى الوحدة السياسة، أي الشعب، فالدولة الوطنية، بصياغة أخرى، هي دولة عموم المواطنين، هي دولة الأمة، دولة الشعب.

يأتي مصطلح الدولة الوطنية، في إطار الرد على مصطلح الدولة الدينية العابرة للأوطان، لكنه لا يقف عند هذا الحد، بل يأتي أيضًا، ردًا على كل المشروعات التي تتبنى أدلجة الدولة؛ فالدولة الوطنية، تقف بالمستوى ذاته، ضد جميع المشروعات المنفصلة عن الواقع التي تنظر إلى شعوب المنطقة، بعين الماضي المؤدلج والمؤسطر، أو من خلال النزعة القوموية الخاطئة، والمتوهمة، والعابرة للدولة، لدى العرب وغير العرب. إن تاريخ منطقتنا الحديث، وواقعنا، يضعانا اليوم أمام تحد كبير، ومسؤولية عظيمة، وهي إعادة إنتاج القومية بناء على الوطنية، بما هي رابط مشترك بين جميع المواطنين، وحاضنة لتطور الديانات، واللغات، والعادات، والقيم العربية، والكردية، والآثورية، وغيرها، والتي تشكل باجتماعها، وتفاعلها، ثقافة عامة، هي ثقافة كل شعب من شعوب المنطقة، وتصوغ هويته.

كما يأتي مصطلح الدولة الوطنية في سياق النقد لمصطلح الدولة المدنية، وهو ليس نقدا شكليًا، بل نقدًا لنسق من الأفكار والتصورات التي توجه الممارسة السياسية، وتعيِّن القيم الأخلاقية، وتحدِّد، من ثمّ، نمط العلاقات الاجتماعية والسياسية التي ينتجها هذا النسق. ويشكل تأجيلًا لمشاكل، سيواجهها العاملون في الشأن السياسي، عاجلًا أم آجلًا، ولذا ينبغي استبداله، بمفهوم الدولة الوطنية الحديثة، المضبوط علميًا وفلسفيًا، والمحدد سياسيًا وقانونيًا، وتتفق البشرية المعاصرة، على دلالاته الأساسية.

في تجاوز للفكر الأيديولوجي الذي طالما نظر بعين الازدراء أو نكران الواقع السياسي والمجتمعي لبلداننا، يأتي مفهوم الدولة الوطنية، منطلقًا من الواقع، ويحاول الربط ما بين الفكر، والواقع، إلا أنه في الوقت ذاته، لا يعني إطلاقًا أنه يرضى به، أو يدافع عنه، بل على العكس من ذلك تمامًا، فالواقع، في العالم العربي، ليس وجود الدول الوطنية، بل هو نقيض ذلك أي أن المنطقة العربية تعاني على المستوى الفكري، والسياسي، والقانوني، من غياب الدولة الوطنية، فلم تكن أي دولة، من دول العالم العربي، وطنية، بما تعنيه من دولة الأمة، أو دولة الشعب، أو دولة المواطنين، فعلى مستوى الخطاب الأيديولوجي ذي النزعات القوموية، كانت هذه الدول تسمى “بالدول القطرية” ولا يخفى على أحد مقدار النبذ والاحتقار الذي طال هذه الدول، وإنكار، ورفض حدودها السياسية التي تم التعامل معها على أنها الابن غير الشرعي للمؤامرة الاستعمارية، ونتيجة لاتفاقية سايكس-بيكو، وتقع على تعارض، وتناقض مع وحدة “الأمة العربية” من المحيط إلى الخليج، وعلى مستوى الخطاب الأيديولوجي الإسلامي أيضًا تقع هذه الدول، في تصنيف الدول الكافرة والمرذولة؛ لأنها تشكل العائق، أمام وحدة “الأمة الإسلامية“.

يخطئ البعض في الربط بين الدولة الوطنية والاستبداد، وربما كان دفاع بعض مثقفي السلطات عن هذه الدول واستعمال المصطلح من قبل السلطات المستبدة التي دمجت ما بين السلطة والدولة واختصرت الدولة بشخوصها، وهذا يشبه إلى حد كبير الخطأ الشائع عن وصف هذه الأنظمة بالعلمانية لما تدّعيه من قشور علمانوية لتسويق بضاعتها في المجتمع الدولي. وإذا كانت الدول المستبدة تتحمل المسؤولية الأولى، عن الواقع العربي الكارثي الحالي؛ فإننا نرى، أن المشكلة كانت -وما تزال- هي غياب الدولة الوطنية، من الجانبين السياسي والقانوني؛ فهي على المستوى النظري، على الأقل، لا يمكن أن تتلاقى مع الاستبداد (وإن حدث ذلك أحيانًا في بعض التجارب التاريخية) فالاستبداد يحمل في بنيته الإقصاء، سواء كان إقصاء الجماعات، أو الأفراد المواطنين، وهذا ما يتعارض منطقيًا مع مفهوم الدولة الوطنية التي تحمل في بنيتها العمومية، وتكون وظيفتها الأولى هي حماية حريات ومصالح جميع مواطنيها بلا استثناء، وأي إقصاء يقع على فرد، أو جماعة، يفقد الدولة عموميتها، وصفتها الوطنية، ولهذا فإن الدولة الوطنية لا تقبل صفات إلا من جنسها، فلا تصلح معها الصفات الأيديولوجية، من قبيل العربية، او الكردية، او الإسلامية، أو الشيوعية، وما إلى هنالك من صفات، تقود حتمًا إلى التخصيص وتحيل إلى النفي. لكن هذه الدولة حكمًا تقبل صفة العمومية، والديمقراطية، والحديثة، وتشكل العلمانية جوهرها، وأساسها.

إن دور المواطن الفرد، وحقوق الجماعات العرقية والدينية، والحريات العامة، وفصل السلطات وتوازنها، لا يغيب عن ذهن من يتبنى الدولة الوطنية، ويسعى لتأسيسها، بل هذه العناوين هي ما يشكل روح هذه الدولة، وهويتها، وانتقاص أي من هذه الحقوق يهدم تدريجيًا بنية الدولة، ويحيلها إلى سلطة، لا إلى دولة، وهو ما نعانيه اليوم في دول السلطات، والطغم الحاكمة، باسم العروبة، والإسلام، والعائلات، وهو ما قامت ضده الثورات في عالمنا العربي، وربما كانت شعارات الثورة السورية، في بداياتها، خير ما أوضح ذلك “سورية لنا وما هي لبيت الأسد”، “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد” هذه الشعارات تؤكد أن الثورة قامت لاستعادة الدولة من الطغمة الحاكمة، لتصبح دولة السوريين، بكل فئاتهم ومكوناتهم؛ فالثورة إذًا قامت ردًا على لاوطنية هذه الدول، وليس العكس.

ليس من الغريب على مثقفي السلطنات، وساستها، الفهم الجاهل للمصطلح أو الاستخدام الخبيث له، بل لا نتوقع منهم ما هو غير ذلك، لكننا نعتقد أن استعمال المصطلح على لسان أعدائه، يجب ألا يجرنا إلى الانزلاق، في إطار ردة الفعل، إلى المواقف الخاطئة، أو الفهم الخاطئ للمصطلحات، بل يجب أن يدعونا إلى المزيد من الجهد، والعمل، وأن نكون أكثر عمقًا، وتفصيلًا في تفنيد المفاهيم.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]