الباب الثامن


معاذ اللحام

لم تدرك الريحُ أن الشجرة ليست ظلًا على الطريق، هي الطريق. ليست هامشًا لوقتٍ فائضٍ عن حاجة العصافير، هي الوقت. هي نورٌ لشدةِ حنانه صار ظلًا. حيث الوطن هو البيت، والعكسُ أصح. ريحٌ لم تقرأ الشجرة، شجرةٌ تربي حجارة ملساء للانتظار، انتظارٌ مغمى عليه.

ليست هذه الكتابة مدائح معلقة على أفاريز أبواب دمشق، وليست منمنمة على قطيفة متدلية من المشربيات، ليست بساطًا مزركشًا بألوان الحنين البلدي، ولا مسودة من الغزل الدارج؛ حيث الياسمين ضجر من نفسه وهجر معناه، ليست بكائيةً على أطلال سور من الحجر والطوب. هذه الكتابة هي الضد؛ رفضٌ سائلٌ على حجارة الرصيف العارية.. رصيف بارد يضم انتظارًا حارًا.

هي كتابة واقعية جدًا، كونها تفتحُ أبواب دمشق للريح مثل علبة سردين، قطعة من طبوغرافيا أقدام المتعبين، تلقي ولعها من زاوية بصر مصاب بمدً شعريّ وغصة في مكبس ماء. هي كتابة موضوعية جدًا كونها تقشر الوجع مثل بصلة غونتر غراس، والدموع لن تكون افتراضية أبدًا.

في مرسمه الباريسيّ كانت “غرينيكا” معلقة على وجع بأرجل مقطوعة، وصراخ ناشف، بدموع هائلة ودمار عميم. سأل الضابط الألماني، بيكاسو، وعيناه على المشهد الحار: هل أنت من فعل ذلك؟ قال الرسام: لا. بل أنتم.

أروي هذه القصة لأستدل على أن من يقوم بالتدمير ليست الحرب، فهذه أولًا وآخرًا كلمة صاغتها اللغة، ولا تملك وحدها القدرة على التدمير، لكنها فعل بشر امتهنوا القتل والتدمير، ويفتقدون شيئًا جوهريًا في صيغتهم البشرية، قبل الحرب وبعد الحرب.

في ربيع 2010 كنت وصديقي في جولة موسعة في ريف إدلب، وزرنا سرجيلا، البارة، المعرة، أريحا، دير شرقي، وكل المدائن الواقفة كشوكة في حلق الريح والزمن. كان المشهد حزينًا، وكان بإمكاني أن أشاهد الإهمال المقصود، والحجارة المبعثرة، الأعمدة مكسورة الخاطر، الأجران المليئة بعلف الحيوانات، القصور المسورة حديثًا كحظائر للماشية. وزيادة في إهمالها أطلقوا عليها لقب “المدن المنسية”، لتأكيد نسيانها، نسيان متفق عليه.

في صيف 2016 قامت محافظة دمشق بإعطاء ترخيص لهدم جزء من سور دمشق التاريخي بعرض أربعة أمتار، وجزء آخر بعرض متر، وفُتح باب ثامن أضيف إلى أبواب دمشق السبعة. بالقرب من الباب الشرقي، أُعطي هذا الترخيص لمدرسة خاصة هي مدرسة المحبة، في تجاوز صارخ لكل إرث تاريخي، في استهتار مقصود بالقيمة. ليس مستغربًا، لكن أن يكون هكذا فجًا، وبلا أي معارضة، ممَّن يهتمون بالإرث التاريخي، وأمام الأعين والمئات من السنين الحجرية؛ ذلك يجعل المشد مؤلمًا كجرح بقطعة زجاج. كان يمكن للتلاميذ أن يستمروا بالركض على حجارة الطريق المستقيم، خروجًا من الباب الشرقي القريب جدًا، وأعتقد بأنه ليس لديهم مشكلة في ذلك، لكن المسؤولين والمتنفذين والمحسوبين وأصحاب القرار والمكتب التنفيذي لمحافظة دمشق، كانت مصلحتهم الموحَّدة هي شق السور.

في هذه الأوقات من 2017 تقيم مديرية المتاحف التابعة لوزارة الثقافة، معرضًا يدعو لحماية الآثار والحفاظ عليها، تحت عنوان: كنوز التراث السوري. إنقاذ، حماية، توثيق. وذلك في الصالة الشامية في المتحف الوطني. ستُدهش بجمال البوسترات العملاقة، بالألوان المنسقة بشكل بقعيّ وحسنات الفوتوشوب، بالبرودة المتحفية، والقليل القليل من القطع التاريخية المعاد ترميمها، على يد خبراء إيطاليين في إيطاليا. ستجد صور الأمراء التدمريين قبل الترميم –بعد الترميم، قبل “داعش”- بعد “داعش”، ستمسح عينيك بالصور وتخرج لتمارس التدخين في الحديقة، وليس هناك ما يمنع دخول الدخان إلى عينيك.

في حي القنوات الدمشقي، ومنذ سنوات تنتظر الانتهاء من ترميم منزل فخري البارودي، وتقول لنفسك سيكون متحفًا، على غرار ما هو معمول به لبيوت الوطنيين والشعراء في كل دول العالم، لتجد وبعد سنوات أن أعمال الترميم انتهت، وأُغلق المنزل وعُلقت على بابه لوحة تشير إلى جامعة دمشق- كلية الهندسة المعمارية.

على زاوية شارع الحلبوني، ستجد منزلًا آخر بحجارة بيضاء وشجر تاريخيّ ولوحة حديثة صدئة مكتوب عليها: معهد التنمية الإدارية. تذهب إلى الجسر الأبيض، وتجد منزل شكري القوتلي مغلقًا، وقد علت أدراجه الحجرية كميات من الغبار المزمن.

لن أستمر؛ فأينما اتجهت باحثًا عن بيوت من كانوا؟ لن تجدهم.

هذه الكتابة ليست اتهامًا للحرب، هي لسان حال من لقدميه عينان. فقط.




المصدر