هولوكوست مصغّرة


الغد

ليس أمراً نافلاً، او مجرد تفصيل صغير لا معنى له ولا غاية من ورائه، ان تكشف الولايات المتحدة الاميركية، على لسان مساعد وزير خارجيتها ستيوارت جونز، وفي مؤتمر صحفي متلفز، عن وجود محرقة لدى النظام في سجن صيدنايا السوري، لصهر رفات اجساد الآلاف من ضحايا التعذيب حتى الموت، ومحو كل اثر للجريمة بحق هؤلاء الذين يتعرضون، على ايدي حكم اقلية متوحشة، للتجويع والترويع والاغتصاب والاعدام، بمعدل 50 انساناً في اليوم الواحد.
كان لافتاً توقيت هذا الكشف الاميركي الصادم، في خضم متغيرات سياسية وميدانية في طور التفاعل بعد، وتوثيقه من جانب الدولة التي لا يخفى عليها خافٍ، حيث كانت عيونها الالكترونية الواسعة ترى هذه الجريمة الكبرى، وتراقبها منذ بداية العام 2015 على الاقل، الا انها بقيت صامتة عن هذه المحرقة البشرية المتواصلة منذ العام 2013، الجارية في احد اشهر المعتقلات الاسدية وحشية وعفونة، خشية تعكير صفو مفاوضاتها النووية مع الجمهورية الاسلامية.
هكذا اذن، وبعد صمت مريب، تبنت الادارة الاميركية الجديدة تقرير منظمة العفو الدولية (الإمنستي) الصادر في شهر شباط الماضي، ذاك التقرير الذي وصفت فيه هذه المنظمة سجن صيدنايا بـ”مسلخ بشري” اعدم في اقبيته الباردة والمعتمة نحو 13 الف سجين حتى نهاية العام الماضي، وعززت ادارة ترامب ذلك التقرير بصور من الاقمار الصناعية، وبتقارير منظمات غير حكومية، محلية ودولية، اضافة الى تقارير صحفية واخرى استخبارية رفعت عنها السرية.
حسب المفاهيم المستقرة عميقاً في وجدان العالم الغربي، ووفق ما هو مجمع عليه من جانب معظم المؤرخين والسياسيين الاوروبيين منذ الحرب العالمية الثانية، فإن ابشع الجرائم الجماعية المرتكبة بحق البشرية في العصر الحديث، كانت المحرقة التي سيق اليها ملايين اليهود في وسط وشرق اوروبا على ايدي النازيين، وهو ما وظفته الحركة الصهيونية على نحو بارع، لتسريع قيام اسرائيل، من خلال كسب عطف وتأييد الحلفاء المنتصرين في تلك الحرب الطويلة.
على هذه الخلفية التاريخية الموجزة، يمكن مقاربة الاعلان الاميركي عن وجود هولوكوست مصغرة في سورية، وهي المحرقة البشرية الاولى من نوعها منذ نحو ثلاثة ارباع القرن، على انه اعلان نوايا عن موقف له ما بعده، قد يفضي بدوره الى زيادة الضغط متعدد الاشكال، للتعجيل بترحيل الاسد، المنتمي الى زمن النازية البائدة، بعد ان قارف بكل الاسلحة كل الافعال التي لا يطيقها الضمير المتحضر، بما في ذلك جريمة استخدام الاسلحة الكيماوية، وآخرها كان في خان شيخون.
لم يكن هذا الكشف الاميركي عن محرقة الجثث هذه، مجرد رسالة رفع عتب موجهة للرأي العام فقط، من قبيل “قل كلمتك وامضِ”، وانما كان تعبيراً عن موقف سياسي مثقّل بوزن الدولة العظمى، قالت فيه “ان هذه الممارسات الوحشية تشكل تهديداً واضحاً للأمن والاستقرار الدوليين، والأمن القومي للولايات المتحدة وحلفائها” ثم دعت روسيا وايران بوصفهما الراعيين للنظام الكيماوي، للاعتراف بهذه الفظائع التي يرتكبها الاسد، كشرط للتعاون في حل الازمة السورية.
من المفارقات الفارقة حقاً، ان الكشف الاميركي الصاعق للضمائر، لم يثر سوى الحد الادنى من ردود الفعل الدولية، ومنها دعوة فرنسا لفتح تحقيق دولي عما كشفت عنه الولايات المتحدة، فيما بدت اسرائيل اكثر من اصابها الذعر، واشدهم ردة فعل، حتى ان احد الوزراء في حكومة بنيامين نتنياهو طالب بقتل الاسد في مخبئه، ليس لأنه يواصل ذبح السوريين مثلاً، وانما كونه سينازع اليهود على احتكار صفة الضحية الابدية الوحيدة، وتوظيف هذه المظلمة التاريخية.
كان من المحتمل ان يظل الضمير السياسي العالمي نائماً ازاء هذه الفظائع الجارية في سورية مطلع كل شمس، وان يؤدي توازن المصالح الدولية الى المرور على هذه المأساة مرور اللئام، وربما اسقاط وصف المسلخ البشري من الذاكرة الغضة. الا انه حين يتم تشخيص الوقائع المرعبة هذه على انها جزء من التقاليد النازية الرهيبة، تنذر بإعادة انتاج هتلر القرن الواحد والعشرين، ويكون ذلك من جانب دولة في وزن اميركا، فإن من المرجح ان يشكل هذا الكشف نقطة فارقة في مسار التطورات السورية المقبلة هذا الصيف، على سلسلة من الانعطافات الكبيرة.
(*) كاتب أردني




المصدر