آفاق وقابليات التحول الديمقراطي في المجتمعات العربية

20 أيار (مايو - ماي)، 2017
6 minutes

حبيب حداد

انتفاضات الربيع العربي التي تفجّرت، قبل أكثر من ست سنوات، في العديد من البلدان العربية، ورفعت مطالب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، كانت في جوهرها مشروع ثورات مجتمعية تحررية شاملة، ومن أجل بلوغ هذه الغاية، كان لا بد لتلك الانتفاضات أن تواصل سيرورتها نحو بناء أنظمة حديثة، أنظمة مدنية ديمقراطية، تنقل هذه البلدان من دول الرعايا المهمشين إلى دول المواطنين الأحرار المتساوين في الحقوق والواجبات، الدول التي يُعبّر كل منها عن الإرادة الجماعية لشعبها، ويعمل من أجل التقدم والخير العام لجميع أبنائها.

لقد انطلقت تلك الانتفاضات، في الأساس، استجابةً لضرورة موضوعية؛ أملتها الأزمة العميقة والشاملة التي عاشتها المجتمعات العربية في الدول والكيانات التي تحتويها، فهذه الانتفاضات الشعبية العفوية لم تأت بفعل عوامل أو مخططات خارجية كما يذهب البعض، في محاولة تحديد أسبابها التي هي قبل كل شيء أسباب داخلية في مجتمعات، توقفت عن مواكبة التطور الإنساني الطبيعي منذ قرون، بما يعنيه ذلك من تراكم واستفحال كل عوامل الركود والعطالة من جهة، وافتقاد أهم مقومات القدرة الذاتية على مواصلة مسيرة التطور والحداثة من جهة أخرى، فالواقع أن هذه الأزمة العامة التي تختلف في بعض خصوصياتها من بلدٍ إلى آخر، لم تكن أزمة عارضة أو جزئية، تطال بعض جوانب المجتمع، بل كانت أزمة شاملة لكل بُنى تلك المجتمعات الثقافية والفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقد تجلت أبعاد ومظاهر هذا الوضع المأزوم، بعد نيل تلك الدول استقلالها الوطني، ومواجهتها مهمات وتحديات عملية بناء الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون والمؤسسات، حيث عرفت تجارب متتالية في هذا الميدان، فمن مرحلة الديمقراطية الليبرالية التي لم تُعمّر طويلًا إلى الأنظمة العسكرية، إلى ما سُمّي بالديمقراطية الشعبية وتجربة الحزب الواحد والقائد، إلى دولة الشخص الواحد، وتحولت الأنظمة التي كان يُفترض أنها جمهورية إلى أنظمة سلطانية، حيث ولاية الحاكم المُلهم تمتد مدى الحياة، وحيث ينتقل هذا الحق الإلهي من بعده لأبنائه.

لقد تفجرت ثورات الربيع العربي؛ لأن الأنظمة التي تحكّمت بمصاير الشعوب العربية، منذ عقود بعيدة، لم تكن هي نفسها راغبة أو قابلة لأي إصلاح حقيقي. لكن السؤال الذي يطرح نفسه، بعد انقضاء هذه السنوات على ثورات الربيع العربي، هو: لماذا لم تنجح تلك الثورات -إذا استثنينا تونس– في تحقيق أهدافها؟ بل ولماذا انحرف بعضها عن المسار الصحيح الشعبي السلمي الحضاري، كما حدث في ليبيا واليمن وسورية والعراق، إذ تحوّل طابع انتفاضات الربيع العربي من صراع وطني مجتمعي من أجل الإصلاح والتغيير، إلى حروب أهلية داخلية، بين المجموعات المسلحة الإرهابية التكفيرية على أسس طائفية ومذهبية وإثنية وجهوية، وإلى حروب بالوكالة بين الأطراف الإقليمية والدولية، بالنسبة إلى هذه الثورات المغدورة التي حُرِفت عن سكّتها الصحيحة، وما تواجهه الآن بلدانها من أخطار وتحديات مصيرية، تُهدد وجودها كدول ومجتمعات، وخاصة بالنسبة إلى المآل الذي انتهت إليه الثورة السورية التي سنركز حديثنا عليها فيما يلي، فإن كل المتابعين للشأن السياسي العام من أصحاب النظرة الموضوعية، يُجمعون اليوم على أن إخفاق هذه الثورة، وبالتالي الوضع المأسوي الذي تعيشه سورية اليوم، إنما يعود إلى عاملين: أولهما افتقاد تلك الثورة إلى رؤية سياسية واضحة، ترسم مهمات وشروط الانتقال إلى المستقبل الديمقراطي المنشود، وهذا الأمر ناجم بدوره عن افتقاد الثورة حتى الآن لقيادة كفء في مستوى تطلعات وآمال لشعب السوري، وثانيهما انجرار الحراك الشعبي السلمي نحو التسليح والعسكرة، كردة فعل على الأسلوب القمعي الوحشي الذي واجه به النظام مطالب الجماهير المشروعة، وكانت النتيجة أن أصبحت الجغرافيا السورية والشعب السوري نفسه ساحة مشرعة، ووقودًا جاهزًا لتصارع كل الأجندات والمصالح الأجنبية في هذه المنطقة الحساسة من العالم.

كانت انتفاضات الربيع العربي الفرصة التاريخية التي طال انتظارها بالنسبة للكيانات العربية كي تبني ذاتها وتمتلك إرادتها الحرة، وذلك بإنجاز التحوّل الديمقراطي الحقيقي الذي يفتح الآفاق أمامها لمواكبة مسار التطور العالمي، لكن الهم الأول اليوم أمام تلك الشعوب التي أُجهضت ثوراتها، وفي مقدمتها الشعب السوري، هو إنجاز برنامج الإنقاذ الوطني، المتمثل بالحفاظ على كيان الدولة والمجتمع، وصيانة وتحصين الوحدة الوطنية، واستعادة مقومات الاستقلال الوطني من تحت ركام الخراب والدمار، وفاء لتاريخ شعبنا ومعاناته وما قدمه من تضحيات جسام، فهل تنجح المجتمعات العربية، في الأمد المنظور، في بلوغ هذه الغاية؟ وهل ينجح السوريون في إنقاذ وطنهم بعد النتائج والدروس التي استخلصوها منذ انطلاقة ثورتهم؟

إذا ما قُدّر لهذا لصراع العبثي المدمر أن يتوقف اليوم قبل الغد، فإن سورية تحتاج إلى عقد أو عقدين من الزمن على الأقل، لا إلى سنوات معدودات كما يتوهم البعض، كي تستعيد عافيتها وتستكمل بناء مقومات الحياة الديمقراطية السليمة، ولا شك أن الخطوة الأولى في هذا المسار هي أن سورية بحاجة إلى عقد اجتماعي وميثاق وطني جديدين، يؤسسان لدولة الشعب ويرسمان صورة المستقبل المنشود، المجتمعات العربية اليوم في تطلعها المشروع للحاق بقطار التقدم والحداثة، لا بد لها من ثورة ثقافية تعليمية، وفي قلب تلك الثورة إنجاز عملية الإصلاح الديني، تلك هي -في رأينا- الثورة المفقودة والمُلحّة، والتحدي الأكبر الذي يواجه مجتمعاتنا العربية إذا كان لها أن تحيا حياة العصر.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]