فدرلة تحرق زمن الاستقرار

21 أيار (مايو - ماي)، 2017

سميرة مبيض

تتفق الكيانات المطالبة بالتغيير السياسي، في سورية، على أن نظام الحكم المركزي لا يُلائم المستقبل المنشود للبلاد، وأن العبور إلى تنظيم إداري لا مركزي أكثر حداثة، هو جزء من الحل، وتعدّ هذه الخطوة من النقاط المشتركة المتوافق عليها لمستقبل سورية.

لكن ما يزداد الاختلاف عليه، يومًا بعد يوم، هو درجة الاستقلالية التي ستنالها هذه التقسيمات الإدارية، إذ تعتبر بعض الأطراف السورية أن مكاسبها تزداد كلما ازدادت درجة الاستقلالية عن بقية السوريين، ويدخل ذلك في سياق القرارات التي تُتّخذ ضمن قصور الرؤية المستقبلية، وغياب الدراسات الاستراتيجية على أسس علمية صحيحة، وفي سياق السعي لمكاسب آنية، وإن كانت بوابة لخسائر كبيرة على المدى الطويل.

ينحصر الجدل الأكبر حول الوصول إلى الفدرالية، أي الوصول إلى أكبر درجة من الاستقلالية للتقسيمات الإدارية، وهو ما تصل إليه الدول -عادة- بشكل تلقائي، وفق تدرج زمني، باتجاهين: إما بالانتقال من دولة مركزية تبعًا لاستقلالية متنامية في كل قسم من البلاد، أو باتحاد مجموعة دول مستقلة أساسًا لتطوير تعاونها على الصعد الدفاعية والاقتصادية بشكل رئيسي.

ندخل هنا إذًا في بُعد زمني مغيّب تمامًا عن معادلة الفدرالية السورية المفروضة اليوم بشكل مستعجل، لدرجة أنه يدفع إلى تفريغ سريع لمدن كاملة لمواءمة “جنين” فدرالية، سيولد قبل وقته بزمن طويل، من دون وجود عناصر أو مقومات حياته الأساسية؛ فينتهي إلى موت سريع. فالمركزية واللامركزية يتحكم بهما عاملان أساسيان غير متوافرين اليوم في الحالة السورية، ويحتاج كلاهما إلى الزمن الذي لم يُتح لسورية يومًا، كي يستقر قرارها.

العامل الأول هو المواطنة التي تجعل مصلحة المجتمع والدولة فوق مصلحة الفرد، أو مصلحة فئة معينة، هذا العامل الذي غُيّب طوال فترة سلطة الأسد أي ما يزيد عن خمسين عامًا، وإذا كان عُمر الجيل الإنساني خمسة وعشرين عامًا، فقد نشأ جيلان كاملان على قواعد الأسدية، بما تضمنته من طائفية وتخريب للهوية الوطنية، وتدمير للمنظومة الأخلاقية، وانتهاج الأساليب القمعية وغير ذلك. افتقاد عامل الانتماء الوطني، في الماضي القريب، سيجعل من أي خطوة نحو التقسيم أكثر سهولة، وسيجعل من الفدرالية خطوة أولى نحوه، خصوصًا في ظل صراع مُكثّف، دار على مدى سبع سنوات، وكانت أدواته الرئيسة الفتنة المناطقية، والفتنة القومية والمذهبية، ويزيد على ذلك أيضًا رسم حدود تتبع هذه التقسيمات المتصارعة، ودعمها بالتهجير القسري لكسر التنوع في المناطق السورية؛ تمهيدًا لتقسيم قسري يلحقه.

ها نحن اليوم أمام ارتكاس مناطقي، مذهبي، قومي، يعكس غياب المواطنة، ويعكس صراعًا بأدوات خارجية ما بعد الثورة، ويعكس استراتيجية خبيثة للأسد طوال خمسة عقود، ولن تُعيد الفدرالية رأب هذه التصدعات، بل ستزيدها عمقًا، وبغياب العامل الوطني سيسقط أي إمكان للتعاون، على الصعيد الدفاعي بين هذه المناطق المفترضة، وعوضًا عن أن تكون لها آلية موحدة للدفاع عن حدود واحدة سيكون لكل منها جيش يدافع عن حدود قومية ومذهبية ضد جواره الداخلي أولًا، وهنا نقطة الضعف القاتلة الأولى.

أما العامل الثاني فهو غياب الاكتفاء الاقتصادي لكل من هذه المناطق السورية المزمع تفريقها، حيث تتوزع الموارد الطبيعية في سورية بشكل غير متجانس مكانيًا من حيث الموارد المائية، والأراضي القابلة للزراعة وموارد الطاقة الأحفورية كالنفط والغاز. فالصراع حول الموارد هو المحرك الأول هنا، على الرغم من أن سورية -وهي وحدة متكاملة الموارد- تكفي لتحقيق الازدهار لمواطنيها، فإن مشكلات السوريين الاقتصادية لم يكن مردّها فقر البلد، بل في كيفية إدارة سلطة الأسد لهذه الموارد، حيث لم تُستَثمر للتنمية والتطوير، بل استُغلت جميعها لتعزيز سلطته وتمكين قبضته، وعانت جميع المناطق، بما فيها المدن الكبرى والعاصمة، من التخريب الممنهج؛ ما جعل حالة التردي الاقتصادية وانعدام التنمية حالةً عامةً، ينتظر أبناء جميع المناطق الفرصة لتخطيها، لكن ذلك سيبقى غير ممكن في ظل التقسيم، فمهما توفر من موارد، لأي من الأجزاء المزمع صنعها، فهي لن تكفي لبناء اقتصاد متكامل، فمن يمتلك إمكانية الزراعة ستنقصه المياه، ومن لديه وفرة مائية سيحتاج إلى النفط، ومن لديه كلاهما ستنقصه المنافذ والموارد البشرية الكافية.. إلخ.

لم يتح الزمن بعد، لأي من هذه المناطق، تطوير اقتصاد وتنمية القطاعات الخاصة بها، وتنظيم الارتباط مع أجزاء البلاد الأخرى لتشكّل اقتصادًا قويًا، فالوصول إلى هذه المرحلة يفترض وجود مرحلة استقرار، تسمح بالتخطيط والتفكير باستراتيجيات وحلول اقتصادية متكاملة. أما القفز عجالة لفدرالية من دون تخطيط للموارد فسيؤدي إلى عجز تنموي في أغلب هذه المناطق، وبحكم الصراع القائم فيما بينها داخليًا والمحمل على خلفيات طائفية وقومية، فستقترب هذه المناطق، بشكل بديهي، من مراكز الثقل الأكبر الأقرب لها مكانيًا، والممثلة بدول الجوار المستقرة اقتصاديًا وسياسيًا، وستتبع كل منطقة سورية لدولة.

إن سيناريو الفدرلة المصطنعة اليوم قد يفضي إلى أحد احتمالين: الأول هو حصول تشرذم فعلي للأراضي السورية، وتبعية تدريجية لكل منطقة مُحدثة إلى جوارها الخارجي، بحكم احتياجاتها وبحكم انفصالها الوظيفي عن مركز ثقل اقتصادي وسياسي من دون تحضير لأي بدائل، أو إلى تنامي نفوذ ميليشيات طائفية وأخرى قومية في هذه المناطق وانفصالها تدريجيًا واستبدال مشروع قيام سورية دولة مدنية تعددية متنوعة -وهو مطلب غالبية الشعب السوري- بمجموعة دويلات قابلة للانجرار سريعًا نحو التطرف والنزاعات، وهو تقهقر إقليمي كبير، لا يمتّ إلى الاستقرار المنشود بصلة، بل يقود إلى مزيد من الخراب، وليس ذلك من مصلحة أي من الدول المعنية.

المشكلة الفعلية هي في حرق مراحل الاستقرار التي يحتاجها السوريون، لإيجاد ما يناسب المرحلة الجديدة، لفترة تعادل تنشئة جيل، على الأقل، على أسس المواطنة، وتمكين الهوية الجامعة، وإدراك المصالح المشتركة، واحترام حقوق الإنسان، وإعطاء الحوار والمصالحة دورًا أساسيًا، لإعادة بناء العلاقات الإنسانية ورفع قِيم العلم والعمل والاحتماء بها من سياسة الجهل والتجهيل.

فالبداية إذًا، لمن أراد الحياة والاستمرارية لسورية، ستكون حتمًا بإيقاف العسكرة الدولية فيها، واستبدالها بقوى حفظ الأمن والسلام والتأسيس التدريجي لنظام حكم لا مركزي، مع بناء قوة عسكرية وطنية سورية موحدة، ووضع خطة تنمية شاملة لكافة المناطق، وتقييم التجربة بعد حين، واستقراء مصالح جميع السوريين في كل خطوة تالية، من دون القفز في الفراغ، وحرق زمن استقرار، هو أكثر ما تحتاج إليه سورية اليوم.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]