“ما في للأبد”


إبراهيم صموئيل

ظلت تشتهر باسم مملكة الخوف -على مدار عقود- إلى أن نهض ناسها وأبناؤها، المُغيَّبون والمُفقرون والمُهمَّشون والمُخرَسون، وثاروا ضد الخوف والاستبداد والطاغية وابن الطاغية، ناشدين الحريّة والكرامة.

ومنذ أعوام ستة، لم تعد مملكةُ الخوف تلك، بلادَ الصمت والسكون والقلق والحذر والترقّب؛ إذ بات واقعها، بأسراره وخفاياه وأقبيته واستبداد السلطة الحاكمة.. على كلّ شفة ولسان من أبناء ذلك البلد، على كلّ قلم وموقع إلكتروني.

فُتحت أبواب جهنّم على مملكة الخوف والصمت هذه، وكُشف المخبوء فيها، وتعرّى المستور، وبان المُغيَّب مما كان يجري داخلها. لم يعد من سرّ -بعدُ- ولا من استفراد بالناس، ولا من آلهة رعب طاغية، تُميت مَنْ تشاء، وتُقصي مَنْ تشاء، وتُلغي مَنْ تشاء، من دون أن تُحيي أحدًا.

هُدمت أسوار القلعة التي أحكم بناءَ أسوارها وجدرانها الطغيانُ الحاكم. قُوّض ما كان يُظنُّ أنه سيبقى أبدًا. انهار الخوف الذي كان كابوسَ العقود السابقة على الثورة، انشرخ وتضعضع ثمَّ انهار. كلُّ ما كان يجري في الكهوف والأقبية والمخابئ وتحت جنح التلفيق والتضليل والأقنعة المخاتلة، طفت حقيقته فوق الأرض، تحت الشمس، في وضح النهار، أمام أعين العالم أجمع.

ما كان يخطُّه شبّيحة السلطة “الأسد إلى الأبد” كان قد عنى للناس أن الاستبداد والخوف والخَرَس باقٍ -فوق حيواتكم وفيها- إلى الأبد، وعنى أنّ قائمة لن تقوم لكم، وعنى أنكم قطعان مزارع آل الأسد إلى الأبد، وعنى أن صوتًا لن يهتف، وأن قبضة لن تُرفع، وأن صورة لن تُثقب، وأن تمثالًا لن يُمسّ، وأن جمعًا منكم -مهما كان ضئيل العدد- لن يتمكّن من اختراق الشوارع والهتاف للحريّة والكرامة؛ لكنَّ ذلك كلّه قد حدث.

على رؤوس الطغاة كُسّرتْ جدران الخوف وأسواره، وعلى أعين الطغاة خرجت النساء والرجال والفتيان، وغطوا أرض الشوارع والأحياء والحارات في المدن والقرى. وتحت أنظار الرقباء والعسس نُشرت الكتابات وانتشرت الفنون من الرسوم والأهازيج، وعلى أعناق المستبدّين مشت الأرجل بعزم.

في تلك البلاد المخطوفة أسديًّا، لم يكن الأمر عاديًّا. في تلك البلاد المكبَّلة بإرهاب المافيات، والمُكمَّمة بالدم والأقبية، لم يكن الأمر عاديًّا. في تلك البلاد المعتقِلة لكلّ مَنْ تُسوّل له نفسُه إظهار البهجة حتى بموت تشاوشيسكو، لم يكن الأمر عاديًّا. في تلك البلاد التي جرى تلويث فضائها كلّه بالترويع والترهيب، لم يكن الأمر عاديًّا.

لا. لم يكن عاديًّا خروج السوريين إلى الشوارع، في عزّ النهار، وهتافهم للحريّة والكرامة. مَنْ عاش يعرف، ومَنْ جرَّب يُدرك، ومَنْ عانى يفهم لماذا جنَّ جنون آل الأسد، وطاقم طغيانهم، من الساعات الأولى -وليس الأشهر الأولى- لخروج الناس وتظاهراتهم في الشوارع.

سنوات عقود ثلاثة، والأسد الأب يبني مدماكًا فوق مدماك، وقرب مدماك، وخلف مدماك، وأمام مدماك، لا حول الناس، بل في كيانهم وأعماقهم ومناماتهم ولا شعورهم وأعصابهم ودمهم.. من أن زوال الحال أو تصدّعه أو زحزحته، من المُحال.

مَنْ عاش، وجرَّب، واكتوى، يعرف أيّ إنجاز عظيم هو القيام بتكسير جدران الخوف، وتهديم قلاع الرعب، وتهشيم مداميك الوعيد، ومن ثمّ الخروج إلى الشوارع، في وضح النهار، ورفع الأصوات والقلوب والنفوس والأشواق من أجل الحريّة والكرامة.

ههنا، ليست الأمور بخواتيمها، بل بمطالعها وبداياتها وافتتاحها، تلك التي حدثت فوق الأرض السوريّة، مدنًا وقرى، شمالًا وجنوبًا وشرقًا وغربًا؛ تلك التي أشرعت بوابات الحرية ليدلف منها الناشدون لها، إنْ لم يكن من الجيل الراهن، فمن أجيال تأتي.




المصدر