“حزب الله” إشكالية الوصف الوظيفي والانتماء


أحمد بغدادي

لم يمر على “حزب الله” انهيار تاريخي، منذ أن سمّى نفسه “حزبًا مقاومًا” عام 1985، تتمثّل كل هواجسه وتوجهاتهِ (المعلنة) باستعادة الحقوق المسلوبة للمسلمين والعرب، وعلى رأسها الحق الفلسطيني، إلا عندما زجَّ بقواته في أتون حربٍ غير عادلة، شنّها النظام السوري على شعبٍ أعزل، قاوم الرصاص والاستبداد بالصرخات المطالبة بالحرية التي تُعدّ أبسط حقوق شعوب العالم.

إن هذه الخطوة الخاطئة التي أقدم عليها الحزب تعد آخر درجات سلّم الانحطاط الأخلاقي، وتُعدّ مخالفة لميثاقه القائم على “نصرة المظلومين” كما جاء في رسالته التأسيسية التي حدّد بها أيضًا فكره وتوجهاته السياسية والمبادئ الأيديولوجيّة، فضلًا عن ذلك تجاوزه للسيادة اللبنانية واصفًا إياها بالتحالفات الخارجية التي تمخّضت سلطةً موجّهة، في إشارةٍ هنا إلى السعودية وفرنسا.

هذا التخبّط في التصريحات والتصرفات، لم يعترف به الحزب، أي أن اللعب على تغيير مفهوم وقواعد (المقاومة) بات واضحًا، فالحبل السرّي الرابط بينه وبين طهران، تم وصله أيضًا إلى خلاياه على الحدود اليمنيّة السعودية. وهو يغذّي تمرّد الحوثيين وباقي فروع الحزب في الخليج. وهذا ما يسمّيه حسن نصر الله في خطاباته: “رد المظلوميّة”.

طهران، لحساباتٍ استراتيجيّة إقليميّة نابعة من مشروعها التوسّعي، أدخلت الحزب إلى سورية، لا كما ادّعى لاحقًا أن النظام السوري أوعز له بذلك؛ هي أساسًا لا يهمّها (الشيعة العرب)، فهم أدوات ووسائل كما ترى، وما كان في العراق أكبر دليل على ضلوعها بهذه الجرائم. فإن تدمّر حزب الله بشكل كلّي بعد استخدامه لمآربها، لا يحزنها ذلك، فهي قادرة على صناعة ميليشيات جديدة أو دعم تنظيمات إرهابية كما كانت تأوي وتدعم قادة القاعدة.

وما خسره الحزب إلى الآن، لم يرجعه إلى صوابه، فضلًا عن فقدانه الشعبية الجماهيريّة التي تجاوزت لبنان لتصل إلى الأمة العربية والإسلامية.

قبيل إعلان حزب الله تشييع أول جندي من جنوده الذين (استشهدوا) في سورية، كما يزعم “دفاعًا عن الأماكن المقدّسة أو تأدية الواجب الجهادي”، بدا واضحًا لمعظم متابعي الشأن اللبناني كُنه ما يرمي إليه الحزب بعيدًا عن الشعارات التي يرفعها والأقاويل التي تتناثر على ألسنة قادتهِ ومناصريه، عندما كاد يجرّ اللبنانيين إلى حربٍ دمويّة شبيهة بالحرب الأهلية 1975 التي دمرّت لبنان لمدة 15 عامًا من خلال احتلاله العاصمة اللبنانيّة بيروت 7 أيار/ مايو 2008 على خلفية قرار مجلس الوزراء اللبناني بمصادرة شبكة الاتصالات التابعة لسلاح الإشارة الخاص به باعتبارها شبكة غير قانونية، وتمس بسيادة الدولة، ولها صلة مباشرة بأفراد تابعين لإيران. وأيضًا، إقالة قائد جهاز أمن مطار بيروت الدولي المقرّب من الحزب بتهمةِ مراقبة المطار بواسطة كاميرات خاصة.

كل ما قام به الحزب إلى هذه اللحظة، يعلنه تارةً على أنّه مكاسب للمقاومة، وتارةً أخرى يجيّره بداعي محاربة الإرهاب وإفشال المخططات التي تهدف إلى كسر (محور المقاومة) خدمةً لإسرائيل. طبعًا، لا يخفى على أحد أين طريق القدس!

ترميم التشوّه الأخلاقي واستثارة العواطف

 إن نظرنا إلى شعارات حزب الله بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان 1982، نجدّ أنها ذات طابع ثوري -اصطدامي- في تلك المرحلة، لما شهده الوطن العربي آنذاك من صراعات كثيرة، إحداها الحرب الإيرانية العراقية التي تعدّ مفصلًا أساسًا في تاريخ المنطقة حتى الآن. وأيضًا، ما أفرزه الغزو الإسرائيلي بعد ذلك من تحولات سياسية، أثّرت على كل أطراف الصراع؛ مما أجبر حزب الله على إعادة حساباته تجاه الصراع مع العدو الإسرائيلي تماشيًا مع التغيّرات الإقليمية والدولية، علاوةً على ذلك، كانت القوى الفلسطينية المتمثّلة بـ “منظمة التحرير الفلسطينية”، لها كلمة على الأرض اللبنانية مع بعض الحركات الثورية (الشيعيّة) التي تمجّد نظريّة (ولاية الفقيه) وعلى سبيل المثال: “حركة أمل” و”حزب الدعوة الإسلامية” و”اتحاد الطلبة المسلمين”. فهذه الجهات اللبنانية التي كانت تقاوم الغزو الإسرائيلي مع منظمة التحرير، انطفأ ظهورها أمام “حزب الله”، في نهاية الثمانينيات، لما قام به من عمليات نوعيّة وقاصمة ضد الجيش الإسرائيلي وقوات “أنطوان لحد” (جيش لبنان الجنوبي) المتشكّلة بدعم من “إسرائيل”.

عمد الحزب إلى استخدام “البروباغندا” منذ نشوئه لتسويق نفسه في الوسط اللبناني والخارج، إضافةً إلى الترويج للعمليات التي كان يقوم بها ضد الجيش الإسرائيلي. كانت أول وسيلة إعلامية أصدرها هي جريدة (العهد) عام 1984 عندما كان تنظيمه على أساس “مجلس شورى” لتنظيم المقاومة الإسلامية، وهيكليّة تحت اسم “حزب الله-الثورة الإسلامية”.

نشير إلى أن صبحي الطفيلي أول أمين عام للحزب ووريثه في القيادة “عباس الموسوي” لم يكونا بهذا التخبّط والرعونة اللذين ينتهجهما حسن نصر الله، منذ عام 2000.

في حرب تموز/ يوليو 2006 سَرَت إشاعات أسطورية بين أوساط اللبنانيين، وبالأخص مناصري الحزب، تلعب على عواطف العامة من الشيعة وتثير استغرابهم. كانت تلك الإشاعات أنّ جنودًا بأرديةٍ بيضاء، قد حاربوا بسيوفهم إلى جانب رجال المقاومة نصرةً لأحفاد (آل البيت) وتمهيدًا لظهور (المهدي المنتظر)!

إن استحضار هذه الأساطير والحكايات بين العامة ومقاتلي الحزب، لم يكن من باب الفراغ، وقد تكرّرت هذه الخرافات مرةً أخرى في سورية، لكن بشعارات مذهبية وطائفيّة، جيّشت الكثير من الشباب برفع شعارات “لن تُسبى زينب مرتين” و”يا لثارات الحسين” وغير ذلك من دفعٍ طائفي كان له وقعه على الأرض السورية ابتداءً من معركة “القصير” وصولًا إلى معارك حلب.

أثار حسن نصر الله عاصفة إعلامية، بعد خوضه معركة القصير 2013 التي خسرَ فيها الحزب ما يقارب 115 مقاتلًا خلال 18 يومًا إضافةً إلى الجرحى والأسرى، متباهيًا بإعلامه المتمثّل بــ (قناة المنار) وغيرها من القنوات ذات المنهج المشابه، بأن هذه المعركة مجرّد تمرين هجومي أوّلي للحزب، بعد بعض المناوشات مع المعارضة المسلّحة في محيط “مقام السيّدة زينب” بريف دمشق. وكانت ذريعة المعركة هي تعزيز حماية الحدود اللبنانيّة السورية من العصابات الإرهابية! وقد نسيَّ (قائد) الحزب الدافع الأساس المتمثّل بالتبعيّة العمياء لإيران التي ورّطته بدخول حربٍ ظالمة ليست في مكانها؛ طبعًا، هذه الطاعة لإيران و”ولاية الفقيه” صرّح بها حسن نصر الله أمام جماهير غفيرة، بعد فترة من انتخابه أمينًا عامًا للحزب خلفًا لــ “عباس الموسوي” الذي اغتالته “إسرائيل” في شباط/ فبراير 1992.

نهاية سيناريو “حزب الله” في سورية

ين عامي 2015 و2016، بدأ الخلاف يظهر جليًّا بين قادة العمليات من الطرف الإيراني السوري، وأساس هذا الخلاف التدخّل الروسي الذي قوّض حجم إيران في سورية، وحاصر تطلعاتها التي صرفت عليها مليارات الدولارات، إضافةً إلى العامل البشري الذي استنزفته الحرب؛ رأى الحزب نفسه ضمن دوامة لا يستطيع الخروج منها إلاّ بالتمهيد الإعلامي والتكتيك للانسحاب، بعد أن صارت إيران “محاصرة” ومرغمة على الرضوخ لشروط روسيا في التهدئة العسكرية والسياسية. ومن جانب آخر، يرى الحزب وجوده في سورية إلى مدى بعيد، ضرورة لا بدّ منها، مقابل وجود فصائل مسلّحة مثل “جبهة فتح الشام” و”أحرار الشام” و”جيش الإسلام” ضمن جغرافيا قريبة من العاصمة دمشق، وهذه الذريعة طالما تغنّى بها وخاصةً في الآونة الأخيرة، بعد أن صرّحَ علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى الإسلامي أن سقوط سورية -الأسد- سوف يؤدي إلى سقوط الكويت. هذا التهديد الإعلامي قد يستثمره الحزب بوضع ذرائع شبيهة بتلك التي كانت -وما تزال- تتمسّك بها إيران، أنّ الإرهابيين المتشددين سوف يحكمون سورية إن سقطَ الأسد.

بعد استنزاف إيران و”الجيش السوري” و”حزب الله” بعيدًا عن شرذمة الميليشيات، كان المخطط يهدف لإقامة مناطق آمنة شمال سورية، تخنق إيران أكثر وتخدم مصالح كل الدول المتحالفة كالسعودية مع تركيا وأمريكا، يليها منطقة آمنة في جنوب سورية مع الأردن، و”إسرائيل” سوف تُقْدِم على ذات السيناريو على حدودها؛ إلا أنّ ما يجري في مفاوضات أستانا وما تمخّض عنها، لم يبدُ واضحًا وجدّيًا لحل الكارثة السورية؛ فالمناطق الأربع التي أسموها بــ “مناطق هادئة أو قليلة التوتّر” لن تكون إلا بداية وتمهيدًا لتفكيك الفصائل العسكرية المعارضة أولًا، أو إرضاخها لشروط الدول الموقّعة على هذه المخرجات الغامضة؛ يلي ذلك إعطاء الفرصة الذهبية للنظام السوري لإعادة هيكلة ما يسمى بــ “سورية المفيدة” وفرض السيطرة على جغرافيا مهمّة من ناحية الثروات والموقع الاستراتيجي، لدى روسيا الحليفة الشرسة للنظام، مع إعطاء “طهران” فتات الغنيمة لإسكاتها قبل سحب البساط نهائيًا من تحتها.

إن بتر اليد الطولى “الإيرانية” من سورية، سيلحقها إرضاخ “حزب الله” للأمر الواقع كي يخرج مع باقي الميليشيات الطائفية، إما باتفاق الدول الفاعلة بالملف السوري، أو عن طريق القوة العسكرية التي سوف تدعمها الولايات الأمريكية المتحدة.

أخيرًا، إنْ استطاع المجتمع الدولي مع دول القرار في الملف السوري أن يخرج بتصنيف الحرس الثوري الإيراني -وهو العمود الفقري لــ”ولاية الفقيه”- منظّمةً إرهابيةً، ووضعه على قائمة الإرهاب، فسنشهد حربًا طاحنة (ميلشياوية)، تدعمها إيران حتى لو كانت منشغلة بتهديدات ترامب الأخيرة؛ فإيران لها أذرعها كما نعرف أيضًا، في اليمن والعراق والبحرين، وتستطيع خلخلة المشهد أكثر، وإرباك القوى الفاعلة بصراعات تؤثر على مصالحهم الاستراتيجية، وتدفع بالمنطقة إلى هاوية يخرج منها تنظيمات شبيهة بـ “داعش وأخواتها”.




المصدر