حزب الله: شوكة إيران في عين العرب


إبراهيم قعدوني

(المقال الحائز على المرتبة الثانية بـ “جائزة حسين العودات للصحافة العربية” لعام 2017).

نشأ حزب الله في لحظةٍ عربيةٍ بالغة الهشاشة، نَبَتَ بين الرّكام، ركامِ الحرب اللبنانيّة، تلك الحرب التي لم تكن حربًا بين اللبنانيين وحدهم بلا شكّ. ظَهرَ حاملًا رايةَ المقاومة في زمنٍ أخذ فيه دور المركزيّاتُ القوميةُ يتراجع تحتَ وطأة انكسارها الثاني؛ ممثلًا بنكسةِ حزيران المسبوقة بنكبةِ فلسطين. كانت اللحظة مواتيةً للاستثمار في فائض الهزيمة والتخلّف السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الشارع العربي، وهو الذي رسمت اتفاقية سايكس-بيكو اتجاهات حركته، وأوكلت إلى النظام السياسي العربي مهمّةَ إبقائه تحت السيطرة.

تحوّلت فلسطين إلى قضيةٍ تتاجر بها الشعبويّات والديكتاتوريات العربية، فيما حوصِرَ من تبقى من “فدائيّين” في مخيّماتٍ، حسبوها موقّتةً في عواصم الشتات العربي، ريثما تحينُ لحظةُ النّصر الموعود، ذلك النصّر الذي سيحوّله الحزب الصاعدُ -لاحقًا- إلى “نصرٍ إلهي” يُكسِبَه حصانةً تَقيهِ المساءلة البشرية، فالحزب؛ وإن بدا كيانًا سياسيًّا، إلاَّ أنّه يُنفّذُ مشروعًا “إلهيًا”، هكذا اشتبك الدنيوي بالسماوي في خطابٍ مشفوع بسبّابة “السيّد” المُشهَرَةِ دومًا في وجه المعترضين على مسارِه وسياساته المتعالية على الوطنية اللبنانية.

وإذْ لا صوتَ يعلو صوتَ المعركة، أُسكِتَ الخصوم السياسيّون؛ خشيَةَ أن تطالهم إحدى التّهمِ المألوفة في لائحة تُهمَةُ العمالة أو التخاذل أو التشويش على “سلاح المقاومة” الذي أضحى مقدّسًا بمرور الوقت. وبغيَةَ تعزيز نفوذه الشعبيّ، استفاد الحزب من نقاط ارتكاز عديدة، كان أبرزها اختياره الشريط الحدودي مع إسرائيل منطقةً أساسيةً لنشاطه العسكري، ذلك النشاط الذي اقتضى إبعاد الآخرين من الجبهة، والاستئثار بها، واحتكارِ ما توفِّرُه من رمزيّة يتوسّلها المشروع الأوسع. هكذا فرض حزب الله نفسه بقوة على الساحة السياسية اللبنانية طوال عقود.

كان لقيامِ الثورة الإسلامية الإيرانية التي قادها الخميني عام 1979، مدَّ حزب الله بأسباب الاكتفاء التي مكّنتهُ من الاستغناء عن العمق العربي، باستثناء سورية طبعًا؛ إذ كانت “سورية الأسد” جزءًا من التصوّر الخميني، فشكّلت دمشق “كوريدورًا” لا يمكن تجاوزه في إطارِ الطموحات الإيرانية السياسية والمذهبية في المنطقة العربية، تلك الطموحات التي استندت إلى رؤية استراتيجية شاملة، تبدّت أبرز معالمها بعد سقوط بغداد، وتكشّفت تكشفًا أكثر وضوحًا في التعاطي الإيراني مع الثورة السورية، ولم يقتصر على الزجِّ بعناصر حزب الله وعتاده في الحرب لمؤازرةِ نظام دمشق الذي أخذ يترنّح.

كان الحزب إيرانيًّا منذ ولادته، غيرَ أنَّ تفصيلًا كهذا بدا هامشيًّا في زمن الشعارات الكبرى، إضافة إلى أنّه لم يشكّل حَرَجًا لقيادة الحزب التي أكّدته علنًا في غيرِ مناسبة، وقد جاء في بيان صادر من الحزب في 16 فبراير/ شباط 1985 أنَّ الحزب “ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني، مفجّر ثورة المسلمين، وباعث نهضتهم المجيدة”. فالمسألة أقدم من الحرب السورية وأضاليل الدفاع عن “سورية المقاومة”، أو عن “مقاماتِ أهل البيت”. يتعلّق الأمر بمصالح جيوسياسيّة قبل كل شيء، فإيران أدرَكَت منذ عقود أنَّ عليها المحافظة على نفوذها السياسي والمذهبي في بلاد العرب مهما كلّف الأمر، كان من شأنِ نفوذٍ كهذا أن يُبقي اللّعبَ مع العالم خارج حدود إيران، وهو أمر إمَّا لم يدرِكهُ معظمُ العرب، أو أنّهم تجاهلوه عمدًا، وفي كِلا الحالتين كانت العواقب أكثر سوءًا من إمكانية إخفائها.

بعد انسحاب إسرائيل من جنوبي لبنان عام 2000، بدا أنَّ الحزب في ورطة، إذ إنَّ فائض قوّته العسكرية سوف يُحسَبُ عليه أكثر من أن يُحسَبَ له، فالمسوّغُ الأبرز لم يعُد حجّةً تكفي لإقناع الجميع بشرعيّة السلاح واستقلالية الضاحية عن القرار السيادي والوطني لدولة لبنان التي كانت بمنزلة رهينةٍ بيدِ الحزب، جرّب الحزب لعبة السياسة، فانكشَفَ حجمه الفعليّ فيها، لا شكّ في أنَّ حقيقة كهذه أربكت الحزب ورعاته، فماذا يفعل بخمسة نوّابٍ فقط في لعبة الديمقراطية؟ سُرعان ما استدرك الحزب ورعاته أنّه حزب بندقيةٍ لا حزب برلمان، فالثاني مكمِّلٌ للأولى، وليس العكس، وعلى الجميع الوقوف خلفَ أخمصِ بنادق “المقاومة” وتحت حِرابها. لا بدّ من أن تكون الدولة/الرهينة مفصّلة على مقاس الحزب، حزَمَ الحزب أمره في هذا الصدد، وراح يطيحُ بكلّ من حاولَ الاعتراض، ناهجًا ديمقراطية المفخّخات؛ لتحقيق رؤيته السياسية للبنان ما بعد “التحرير”. طال العنفُ الجميع تحت مرأى الحليف السوريّ أنذاك، ولم يسلم منه رفيق الحريري الذي بدا أنّه الندّ الأخطر في رأي الحزب، كان لا بدَّ من خلطِ الأوراق بعد أن أشارت أصابع الاتهام إلى نظام الأسد وحلفائه بالوقوف وراء الجريمة، سارع الحزب إلى إشعال حربٍ مع إسرائيل؛ للتغطية على الفراغ الذي خلّفه انسحاب قوات الحليف السوريّ، وبغية الإفلات من مفاعيل التحقيق الدولي بجريمة اغتيال الحريري.

طالت تبعات المعركة لبنان بأكمله، وقف الشارع العربي المثقَل بالهزائم والانكسارات وراءَ حسن نصر الله، ورأى فيه مقاومًا سيعيدُ الشوكَةَ إلى العرب الذين كانوا ما أحوجهم إلى انتصارٍ ولو من ورق، راحت الآلة الإعلامية للحزب وأخواتها على طول المحور “الممانع” تجهدُ في صناعة الانتصار الذي سُرعان ما وُصِفَ “بالإلهي” أسوةً بكلّ ما يتعلّق بحزب الوليّ الفقيه. تسببت الحرب بموجة نزوحٍ كانت أكبر من قدرة لبنان الصغير على استيعابها، عَبَرَ النازحون نحو الجوار السوري، حيثُ فُتِحَت لهم قلوب السوريين المهمومة بهواجس العروبة والمقاومة، كان أولئك الناس أكثر طيبة وسذاجةً منَ الانشغال بأفكارٍ تتعلق بحقيقة الحزب وولاءاته وأهدافه الحقيقية. وفي موقفٍ عابرٍ للطوائف والمذهبيّات، أعطى الرأي العام العربي ما يشبه شيكًا على بياض في تأييده الحزب، وهي الحقيقة التي عرف حزب الله، ومن يقف وراءه، كيفية استغلالها في تحقيق الرؤية الأشمل للمرشد الأعلى.

وصلت نسائم الربيع العربي إلى سورية، كان الأمر مفروغًا منه لمن عرف حقيقة الوضع السوري، ولم تكن شعارات المنتفضين السوريين، ولا تطلّعاتهم، بحاجةٍ إلى التوضيح لمن كانت لديه الرغبة في رؤية الحقيقة، فسيرةُ السوريين مع نظامهم القمعيّ أوضح من أن يلزمها الشرح. غيرَ أنّ زاوية رؤية الحزب جاءت مخالفةً تمامًا، وسرعان ما تبنّى رؤية النظام السوري حول المؤامرة التي تطوّرت إلى “حربٍ كونية” ضدّ محور “الممانعة”. ولم يجد الحزب الذي صَدَعَ رؤوس جماهيره بشعارات النضال والمقاومة ومناصرة “المستضعفين” حَرَجًا في الانخراط العسكري في قمع الاحتجاجات، وإعلان الحرب المفتوحة على المجتمع السوري المنتفض.

وعلى الرغم من جسامة خساراته المادية والمعنوية في الحرب السورية، إلاَّ أنَّ الحزب/ الميليشيا -ومن ورائه طهران- وجدَ في العمق السوري مساحةً تدريبيّةً نادرة، حتى أنَّ نعيم قاسم، نائب الأمين العام لحزب الله، أعلن على هامش عرضٍ عسكري ضخم أجراه الحزب في قُدسِه السورية، ممثلةً بمدينة القصير السورية، أنَّ الحزب أصبح “أكبر من مقاومة وأصغر من جيش”، ووجدت طهران وأداتها الميليشاوية في الفوضى السورية فرصةً جديدة؛ لتعميق اختراقهما أجهزة الدولة المتهالكة، ومضاعفة عبثِهِما في الديموغرافية السورية، ذلك العبث الذي يُخشى من أنَّ إزالة آثاره لن تكون بالسهولة التي ربما يحسبها بعضهم.

وعلاوةً على خيبةِ أملِ المتعاطفين مع الحزب من خارج العصبيّة الطائفية، فقد تسبّب موقفه هذا باستقطابٍ طائفيّ حاد، زادَ من تعقيد المشكلة السورية، وأسهم في توسع نطاقها المحليّ. وضَعَ الحزب كاملَ مقدّراته في مواجهةِ الشعب السوري، وهي القدراتُ التي حسِبَتها جماهيره مكرّسة لمواجهةِ العدو الإسرائيلي، ليتَبيّن أنًّ معركة المواجهة الكبرى التي سُحِقَت باسمها أجيالٌ تلو الأخرى، إنّما كانت معركةٌ في مواجهة الحريّة والشعوب المطالبة بها. سقطت الأقنعةُ والشعارات القديمة، وتحوّلت مساراتُ “المقاومة والمواجهة” عن وجهتها المزعومة، فصار الطريق إلى القدس يمرّ من القصير السورية غربًا؛ وحتى دير الزور شرقًا، ومن بصرى جنوبًا وحتى أقصى الشمال السوريّ، راح الحزب وحلفاؤه ومرتزقته ينكّلون بالسوريين، زاعمين أنّهم يدافعون عن مقدّساتٍ لا نعلم من تعرّض لها طوال قرون، وكأنّها ظهرت في بلادنا بين ليلةٍ وضحاها!

لقد استغلّ الحزب، ومن ورائه إيران، تشرذم الصفّ العربيّ، وتوجُّسَ سياسيّيه من موجةٍ ثوريّةٍ تعيد تشكيل المشهد على أسس الحريّة والعدالة والمواطنة، فبادر إلى تحويل أزمته العميقة التي بدأت منذ انكشافه السياسي في لبنان، وصولًا إلى فضيحته السورية، إلى فرصةٍ لتنفيذ الرؤية الأعمّ لإيران، تلك الهيمنة التي بدا واضحًا أنها لا تقتصر على الإمساك بالعراق و “بالكوريدور الشاميّ، بل تتعدّاهما إلى اليمن ودول الخليج، وما خفي أعظم. لقد كشفت تطورات السنوات الأخيرة وجه الحزب، ودوره الحقيقي أمام من انطلت عليه أحابيلُ الشعارات وفائض البلاغة “الممانعة”، فمِن عمليات الاغتيال التي طالت خصومه اللبنانيين، مرورًا بشبكاته التخريبية في دول الخليج العربي؛ وصولًا إلى حربه الطائفية في سورية، أماط الحزب بنفسه اللثامَ عن وجهه الحقيقي، بصفته وكيلًا لنظام الملالي الإيراني وأداةً لاستراتيجية طهران ونفوذها المتعاظم في البلاد العربية، منذ سقوط بغداد وحتى سقوط حلب. لا شكَّ في أنّ غياب مفهوم الدولة الوطنية الديمقراطية عن العالم العربي سهَّلَ مهمّة إيران في اختراقها، وفي اختطاف أحدِ مكوّناتها المذهبية.

إنَّ من يراجع سيرةَ الحزب وعلاقته الإشكالية مع محيطه، سواءً القريب لبنانيًا أم ذلك المحيط الأوسع إقليميًا، لا بدَّ من أن يستشعر الخطر المتنامي لدوره، بوصفه رأس حربةٍ في المشروع الإيراني الذي لا يتحقق إلاَّ بتقويضِ كيانِ الدولة العربية الهشَّةِ أصلًا، وباعتراض أي مسارٍ ديمقراطي، من هنا جاء التوجس الإيراني من الثورة السورية التي كان من شأنِ نجاحها في تحقيق الانتقال السياسي، أن يقطع الطريق على مشروع الاستباحة الإيرانية للكيان السوريّ، بكافة مقوّماته. وإنّه ليس من المبالغة القول بأنَّ حزب الله، ومن ورائه إيران، يشكِّلان تهديدًا وجوديًّا للأمن القومي العربي، ولمستقبل الشعوب في المنطقة، وأنَّ ذلك التهديد لا يقلّ من حيث خطورته عن التهديد الذي تشكّله التنظيمات الإرهابية الأخرى التي تنتهج العنفَ سبيلًا لإنجاز تصوّراتها المتعالية على الشرط البشري.

وإلى اليوم، لا يبدو أنَّ لدى الممسكين بزمام القرار السياسي العربي خطّة ناجعة لمواجهة التغوّل الإيراني في المنطقة. لقد مضى وقتٌ طويل منذ أن أصبح حزب الله أكبر من لبنان، وأصبح لبنان رهينةً بيدِه، تلك مسألةٌ ليست بالمستجدّة، وهي أمرٌ واقع؛ حتى وإنّ ظلّت تُدهِشُنا، غير أنَّ الأخطر يتمثّل في العجز عن مواجهة التدخلات الإيرانية في سورية، ولم تعد تقتصر على قوات حزب الله وعناصر الحرس الثوري والمرتزقة الذين جيء بهم من أصقاع الأرض، بل تجاوزتها لدرجة أصبحت فيها إيران طرفًا فاعلًا في الأزمة السورية، يكاد لا يكتمل نقاشٌ من غير حضورها، وباتت تعدّ دورها في سورية مسألةً مفروغٌ منها بحكم الأمر الواقع، وها هو روحاني يدعو من الكويت إلى فتح صفحةٍ جديدة في العلاقات مع الدول العربية الخليجيّة!. يحدث ذلك قبلَ أن تتوقف بنادق الميليشيات والمرتزقة الذين جلبتهم طهران عن قتل السوريين، وقبل أن تجفًّ دماءهم ودموعهم التي يستمر النظام السوري وحلفاؤه في إراقتها.




المصدر