حمص العدية.. زوادة الراحلين


حافظ قرقوط

هتف لها السوريون عاصمةً للثورة، حين أشعلت عاطفتَهم بسهراتها ونغماتها وإصرارها، ليصبح جامع خالد ابن الوليد، وكنيسة أم الزنار، محطات مضيئة من تاريخها النضالي، حين يكون حوار الأديان، يشبه السكان ويمارسه المكان، هناك تنقل عبد الباسط الساروت بين الأبواب وأسفل الشرفات، يوزع عاطفة الانتماء على طريقة السوريين، بصفته حارسًا لمرماها، وحارسًا لعادات أهلها وابتساماتهم.

هي حمص، عاصمة ثورة لم تلن ولم تهدأ، عاصمة الثبات والانتماء والإصرار، منذ ربيع 2011. هي القلب الذي التف حوله السوريون، وليس من عادة الثوار بالتاريخ أن يلتفوا حول سراب، فدماء الشهداء، وأحياؤها المتعاضدة، وعقارب ساعتها التي توقفت على ثواني مجزرتها لم تكن وهمًا.

في تاريخ ضبابي، يشبه أحلام شعب ما زالت مؤجلة منذ عهد الاستقلال، كان يوم 21 أيار/ مايو 2017، إذ سُلّم حي الوعر -آخر الأحياء من عاصمة الثورة- لعهدة المحتل الروسي، ليقدمه بدوره قربان عار أزلي، لوحدة حال بين القاتل والمغتصب، وبين الناهب والسكير، في مشهد يلخص شكل جندي روسي ثمل، لكنه يدرك قبل آخر كأس، أن حمص صمدت في وجه الجناة والغزاة أكثر من ستالين غراد.

لم يعد مهمًا، لأهل المدن المنكوبة، كتابة الحدث خبرًا، لا يهم عدد دفعات النزوح، وتاريخ أول تهجير، ولا أول مجزرة أو آخر وداع لشهيد، ولا أرشفة البيانات والمؤتمرات، فعندما أعاد الروس حلب، ثاني أكبر المدن السورية إلى الأسد، كان ارتفاع منسوب الدم والنداءات والمؤتمرات أعلى من منسوب قلعتها، وأدنى من هامات الأطفال، وكان عدد القتلة وصواريخ طائراتهم يُحصى بالثواني، فلا يلام الزعتر الحلبي في وجه أسراب الجراد.

وفي مراسم الوداع لا تحصى الدموع ولا كلمات الدعاء، لا تحصى نبضات القلوب أو لحظات التأمل، بل تحصى مساحات الذاكرة التي تحجز بطاقة العودة، وتزينها بأشياء الانتماء الصغيرة، كشتلة حبق، أو قطعة حلاوة بالجبن، أو قد تكون بيت شعر لديك الجن الحمصي، يناجي حبيبته، أو نغمة (ميجنا) لجار، وهي بالتأكيد صباحات الأمهات والآباء، هي إرث أهل على جدران الخلايا لا يمكن نهبه أو اغتياله.

أحياء حمص التي تهدمت، ليست تلك الأشباح التي أرادها القتلة أن تسرق روح المكان، بل هي زوادة الراحلين، حين تتكدس النكبات، لتكون المعين لهم حين تنساب خيوط الفجر كأسنان مشط، وتداعب جدائل العدية، حيث عقارب ساعتها التي توقفت للانتظار منذ أعوام، ستمضي قُدمًا، حين تطلق كنيسة أم الزنار أجراسها، فتجيبها مئذنة جامع ابن الوليد لتقول إن العواصم ابنة المكان، وحمص عاصمة ثورة، ككل ثورات التاريخ، بوهجها ووجعها، بفرحها ونكبتها، على طريق نصرها، حين يتدفق من نوافذ البيوت إكسير الحياة.




المصدر