عودة أيام الصبا


هيفاء بيطار

عودة أيام الصبا

آن تيلر كاتبة أميركية، ولدت في بلتيمور عام 1941، يرى العديد من النقاد أنها من أعظم الروائيين في العالم، حصلت روايتها (دروس التنفس) على جائزة بوليتزر، وتحوّل العديد من رواياتها إلى أفلام سينمائية ناجحة، وحصدت جوائز عالمية، مثل أفلام: سُلّم السنوات، ربما كان قديسًا، سائح بالصدفة.

روايتها (عودة أيام الصبا) صدرت عام 2001 وهي رواية ضخمة 560 صفحة، صدرت عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، وقام بترجمتها مترجم مُبدع هو الأستاذ عبد الحميد فهمي الجمال الذي ترجم أكثر من خمسين كتابًا بين دراسات علمية وروايات عالمية.

لستُ ناقدة أدبية لأقيّم رواية آن تيلر، لكن موضوع الرواية الذي يناقش مرحلة منتصف العمر، شغلني منذ سنوات، وكنتُ أتابع -باهتمام- العديد من الروايات العربية والعالمية التي تطرقت لتلك المرحلة من عمر الإنسان، وهي أزمة منتصف العمر (كما تُسمى)، على الرغم من أنني لا أحب كلمة أزمة، لكن الكتاب الرائع الذي أصدرته الطبيبة النفسانية الأميركية إيدا لوشان، بعنوان (أزمة منتصف العمر الرائعة) قد رسّخ استعمال كلمة أزمة، مع أنها في كتابها تبين أن لتلك المرحلة من عمر الإنسان سحرها وروعتها، فهي مرحلة اكتمال النضج والإنجاز في مجالات عديدة، كالعمل وتأسيس الأسرة وتربية الأطفال، وهي مرحلة ولادة جديدة ومعرفة عميقة للذات.

منذ السطر الأول في رواية (عودة أيام الصبا) لآن تيلر، تقول الكاتبة (أو بطلة الرواية واسمها ربيكا): “في يوم من الأيام اكتشفت ربيكا، وعمرها 53 سنة، أنها قد تحوّلت إلى الشخصية الخاطئة، وخطر على ذهنها أن معظم الناس -في عمرها- يرون أن الوقت قد فات، بحيث لا يمكن إدخال أي تغييرات، فهم يقولون إن ما حدث قد حدث، ولا فائدة ترجى من وراء تغيير الأمور في هذا الوقت المتأخر”.

تخطف أنفاسنا آن تيلر، على مدى صفحات روايتها، ونجد أنفسنا متماهين مع مشاعر ربيكا المرأة التي وصلت إلى منتصف العمر، وتتمتع بقدرة مذهلة وشفافية عالية في مواجهة ما عاشته، وحقيقتها، وإلى أي حدٍ كانت هي ذاتها؟ وهل كانت خياراتها في الحياة نابعة منها، أم بتأثير ظروف أقوى منها؟!

الرواية تطرح تساؤلات وجودية أزلية وعميقة، هل الإنسان حرٌ حقًا؟! هل خياراته في الحياة نابعة من ذاته؟! وهل هناك أشخاص يهيمنون على الآخرين ويصادرون حريتهم وقراراتهم المصيرية؟!

تبدو ربيكا متربعة على هرم سنواتها الثلاث والخمسين، كما لو أنها تطل على حياتها من علٍ، وتملك قدرة غوّاص ماهر، لتغوص في الماضي وتستعرض مواقف مرّت بها، وهي تقفز بحرية من دون ترتيب زمني في ماضيها، وتتناوبها مشاعر عديدة متناقضة، في رحلتها العكسية. إنها تتساءل –كما يتساءل كل إنسان– كيف كانت ستكون حياتي لو لم أقع في براثن الحب؟ وتتألم حين تشعر، في كثير من الأحيان، أن الحياة لم تكن عادلة معها، ولم تنصفها، لكنها تنجح دومًا في قمع هذا الشعور، وتلمس كيف أنها في كثير من الأحيان شعرت أنها تعيش حياة امرأة أخرى، وبأن حياتها الحقيقية ووجودها الحقيقي، كان ينساب على نحو متواصل، تحت سطح حياتها اليومية.

لقد تحوّلت من مراهقة عاشقة لشاب جميل يماثلها في العمر، وهو زميلها في المدرسة، وتربطها به عاطفة حب عميقة، إلى زوجة مفيدة وامرأة نافعة في مؤسسة الزواج، امرأة تخدم كل من حولها.

ربيكا الشابة العاشقة لزميل طفولتها ومراهقتها واسمه ويل، كانا يخططان للزواج والعيش معًا، ويتبادلان قبلات ملتهبة وغزلًا ناعمًا، لكنهما لم يمارسا الجنس أبدًا، لأنهما يؤمنان أن العلاقة الجنسية يجب أن تبدأ بعد الزواج.

تتعرف ريبكا إلى رجل يكبرها بثلاثة عشرة عامًا واسمه جو، لديه ثلاث بنات من زوجة هجرته وهجرت أولادها، لتلحق حلمها، بأن تصير مطربة مشهورة. يعيش جو مع بناته الصغيرات وأمه التي تساعده في تربية أولاده، ومع أخ معروف بشذوذه الجنسي، أما والده فقد مات منتحرًا، ولديه نادٍ أشبه بمطعم اسمه الأذرع المفتوحة، يديره مع أسرته.

تشعر ربيكا أن جو اكتسحها واجتاحها، تستعمل مرارًا هذه العبارات، وتقول بأنها كانت تقع في حالة من الطيش الأهوج في كل مرة تلتقي جو؛ حيث كانت تضحك في انفلات وجموح شديدين، ضحكات متفجرة، وتشعر أنها خالية من الهموم تمامًا، وبأنه يكتسحها.. صارت علاقتها مع ويل باهتة، وصار جو هو انتماؤها، ولم تكلف نفسها أن تبرر لحبيبها كيف تبدلت وانحرفت مشاعرها باتجاه رجل آخر. بكل هدوء وبساطة أدارت ظهرها لحب حياتها –كما كانت تعتقد– وتزوجت جو، متحملة مسؤولية بناته الثلاثة وأمه الكهلة، وأخيه الشاذ جنسيًا، وشعرت أنها صارت إنسانة مختلفة تمامًا عما كانت أو ما اعتقدت أنها كانت، والأهم، أنها قطعت دراستها الجامعية، وتفرغت لأعباء حياتها الجديدة في تربية بنات زوجها، وفي إدارة نادي الأذرع المفتوحة.

الرائع في كتابة آن تيلر أنها لا تطلق أحكامًا أخلاقية على تصرفات أبطالها، فهي لا تتهم ربيكا أبدًا بالخيانة لحبيبها ويل، ولا تنظر للشاب الشاذ جنسيًا نظرة إدانة وازدراء. إنها تقبل بأحداث الحياة بتسليم ورضا، فهذا ما حصل، وبالتأكيد هناك أسباب ومبررات لوقوع الأحداث ولمواقفنا منها. لم تقل لنا آن تيلر أن علاقة ربيكا وويل كانت ناقصة، وإلا لما نسَفها بتلك البساطة رجل مثل جو، إنها تترك تفاصيل صغيرة في حياة أبطالها؛ تُعلمنا أو تهمس بآذاننا لماذا صار ما صار، فحبيب ربيكا كان شابًا هادئًا، نمطيًا، كان يطهو لنفسه طعامًا قوامه الحبوب والخضار، بكمية كبيرة، كل يوم أحد، ثم يوزع هذه الكمية في سبعة صحون، ويأكل على مدار أسبوع الطعام ذاته. لم يكن يعني له أبدًا أن يأكل كل يوم نفس الطعام. هذا التفصيل الذي يبدو عَرضيًا، بل تافهًا، يلقي إضاءة كاشفة على أعماق شاب مُحّنط في قالب، لا يملك حيوية ورغبة بالتجدد والتغيير، إنه نمَطي على نحو عجيب، وهو يحب ربيكا، ويخطط للحياة معها، ويتخيل كيف سيعيشان، وإلى أين سيسافران، وكم طفلًا سينجبان. يتكلم بكل هذه التفاصيل، بالروح الفاترة المملة التي تدفعه ليطبخ لنفسه الطعام ذاته على مدى أسبوع! أما جو الذي يكبرها بـ 13 سنة ولديه ثلاثة أولاد صغار، وأم، وأخ شاذ جنسيًا، فقد فجّر فيها هوى الحياة. نضجه وخبرته الحياتية لعبتا -بالتأكيد- دورًا مهمًا في جذب ربيكا الطالبة التي لم تكن قد خاضت بعد في بحر الحياة الغني بالتجارب.

تنجب ربيكا طفلة من زوجها، وتنهمك في أعباء الأسرة، وتُعاني من رفض بنات زوجها لها، وتتحمل هذا الرفض طويلًا؛ حتى تتمكن من الحصول على حبهن. كانت تخدم الأسرة كلها: الأم والأخ والبنات والزوج… وتشعر -في كثير من الأحيان- أنها تحوّلت إلى إنسانة أخرى! وعلى الرغم من تماهيها في حياتها الأسرية ومسؤولياتها، ظل سؤال يقض مضجعها: ما الذي حدث لي؟ هل تلك المرأة هي أنا؟! كيف أصبحتُ بحق السماء على هذا النحو، كيف أصبحتُ هذه الإنسانة التي هي ليست أنا في حقيقة الأمر؟

يموت زوج ربيكا جو في حادث سيارة مرّوع، تكبر بناته ويتزوجن، تتزوج ابنتها -أيضًا- أكثر من مرة، ابنتها الوحيدة التي أنجبتها من جو، تعتقد أن زيجاتها التي انتهت بالطلاق، هي بمنزلة طريقة في تجريب حيوات أخرى. لكن ربيكا تقبل الجميع، وتصبح جدة لعدد من الأحفاد.

أرملة في الثالثة والخمسين محاطة ببناتها وأزواجهن والأحفاد، وأخ زوجها الذي قارب عمره مئة عام، تعتني به لأنه صار جزءًا من عالمها.

تلتقي ربيكا بحبيب الصبا ويل الذي صار أستاذًا في قسم الفيزياء، وكان قد تزوج من طالبته التي تصغره بخمسة عشر عامًا، وأنجب منها ابنة، لكن زوجة ويل هجرته، ورفعت دعوى طلاق ضده وابنتها تعيش معها.

يلتقي الحبيبان القديمان، وكما لو أن نفقًا مسدودًا قد انفتح بين حاضرهما -رجلًا وامرأة- في منتصف العمر، وماضيهما حين كانا شابين عاشقين، يلتقيان بمودة وارتباك. تشعر ربيكا أنها تحاول أن تجد صلة أو توافقًا بين النسخة التي آل إليها ويل، وبين صورته شابًا، وهو يحاول أن يتعرف إليها، بعد مضي أكثر من ثلاثين عامًا على افتراقهما. لم تلتهب المشاعر القديمة، ولم تعش، على الرغم من موجات الحنين التي عصفت بهما. تدعوه إلى بيتها وتعرفه بأسرتها الكبيرة، ويدعوها إلى بيته ويطلب من ابنته أن تزوره كي يعرّفها بأغلى إنسانة كانت في حياته. وحين يسألها لماذا هجرتني من دون أن تقدمي لي أي تفسير، ولماذا فطرتِ قلبي؟! تجيب: لا أعرف لقد اكتسحني جو.

بعد عدة لقاءات، يعتقد كل منهما أن الحب القديم سيستيقظ من سباته. لا شيء يعيق ارتباطهما بعلاقة حب أو بزواج! من حق كل إنسان أن يبدأ بداية جديدة في حياته، مهما كان عمره. يحاول كل منهما ردم تلك الفجوة الزمنية بينهما. يسألها لِمَ لم تتزوج ثانية بعد أن مات زوجها؟ تقول إنها شعرت أنها أنجزت حياتها تمامًا، أو أنها انتهت من حياتها، لدرجة بدأت تعتقد أن الحياة الإنسانية طويلة للغاية، وأنها حاولت أن ترافق رجالًا بعد وفاة زوجها، لكنها كانت تشعر -كل مرة- أنها تمتلئ باليأس حين تخرج برفقة أحدهم. ذات يوم وافقت على دعوة رجل معجب بها إلى العشاء، قبلت الدعوة كي لا تكون مُعقدة في نظر نفسها، لكنها ما إن جلست برفقته في المطعم، وشاهدت الشعر الأحمر الأشبه بالأسلاك على ساعديه؛ حتى امتلأت بالنفور واليأس.

تتبادل ربيكا وويل بعض القبلات الحميمة، لكن هذه القبلات لا تفضي إلى شيء، لا يُخلق منها وعد ولا أمل، ولا حياة جديدة زاخرة بمشاعر الحب.

ويل كان متحمسًا أكثر منها للتجريب، ليعودا كما كانا ذات يوم عاشقين، لكنها، حين غاصت في أعماق روحها، أدركت أن ما تحتاجه حقًا في حياتها هو الرومانسية وليس ويل.

امرأة في الثالثة والخمسين هدرت طاقتها في خدمة أسرة كبيرة وصارت جَدة، وعانت من هبات سن اليأس ومن تعب مديد، بسبب مسؤوليات الأسرة، ما عادت ترغب سوى بشحنات من الرومانسية. هذا الرجل الذي تركته ذات يوم، لا يغويها أن تستأنف معه علاقة جديدة، إنها تفضل أن تكون وحدها؛ الوحدة قد تكون ألطف وأكثر حنانًا ورأفة من العيش مع آخر. لقد فهمت حياتها تمامًا، كيف كافحت لتبقى معطاءة وأساسية في أسرتها، كم أحبتها بنات زوجها، وكم يحبها أحفادها، كافحت من أجل أن تكتسب صفة المرح، حتى إن أخا زوجها الذي بلغ عمره مئة سنة وسنة، كان يضحك ويقول: يمكن قراءة عمري من اليمين إلى اليسار، ومن اليسار إلى اليمين، ولا يتغير الرقم! تحب هذا العجوز الطاعن في السن، إنه جزء من حياتها. في الصفحة الأخيرة من الرواية تتألق آن تيلر في مفهوم الحياة، وتقول على لسان ربيكا: لا توجد هناك حياة حقيقية صادقة لم نعشها، لأن حياتنا الحقيقية هي ما آل إليه مصيرنا في نهاية الأمر، مهما كانت نوعية هذه الحياة.

إن هذه الفكرة التي تبدو بسيطة وبديهية، هي غاية في العمق، لأن كثيرًا من الناس يعتقدون أنهم لم يعيشوا حياتهم الحقيقية، يظلون -سنوات طويلة- ضحايا مشاعر الأسف والحزن، على عمر، لم يمر كما يرغبون، أو يفترضون كيف يكون! لكن الحقيقة أن الحياة الحقيقية هي ما عشناه فقط، وأننا يجب أن نتحمل مسؤولية خياراتنا في الحياة.

“عودة أيام الصبا” هي رواية بوح شفيف وعميق لمشاعر امرأة في منتصف العمر، لدرجة شعرتُ بها أن آن تيلر تتفوق على نفسها في تحليل مشـاعر النسـاء في منتصف العمر. وتحضرني هنا روايات عديدة حاولت أن تلقي الضوء على مرحلة سن اليأس عند النساء، روايات أبسط ما يقال عنها أنها غير حقيقية، وغير مقنعة، لأن معظم هذه الروايات كانت تقدم نساء في عقدهن الخامس، كما لو كنّ صواريخ جنسية، كما لو أن الرغبة الجنسية يصيبها تورم سرطاني في عمر الخمسين، وتطالب بحقها في التجسد والتحقق، بجموح وشغف يتفوق على رغبة شباب في العشرين.

إنه عمر مواجهة الذات.. الاستفادة من الأخطاء والهزائم والانتصارات، من أجل استئناف مرحلة جديدة من الحياة، لها طبيعة مختلفة، لأن الإنسان يشعر في منتصف العمر أن حياته صارت تخصه وحده، ولم تعد تخص الآخرين، لقد أنهى دَينه وواجباته وصار متفرغًا لذاته، كما عبّرت آن تيلر على لسان بطلتها ربيكا: أعتقد أن جسدي يحاول أن يقول لي شيئًا، لقد سئمت من التصرف دومًا على نحو أفضل مما كانت عليه ذاتي الحقيقية.

رواية عودة أيام الصبا، تفجر فينا أسئلة وجودية عميقة عن الزمن، وعلاقة الإنسان بالزمن، وتغير إحساسه بذاته وبالعالم، مع مرور الوقت. إن أيام الصبا لا تعود بطزاجتها وحقيقتها، لكن الذي يتبقى منها هو عطر الذكريات والحلم اللذين لا يمكن للإنسان أن يعيش خارجهما.




المصدر