من وحي جنيف


عقاب يحيى

للمرة الأولى أشارك في جنيف، ضمن الوفد الاستشاري، كان الوفد المعارض السوري كبيرًا، متنوعًا: الهيئة العليا للمفاوضات، بعدد كبير، وترى نفسها المرجعية الأولى، وصاحبة القرار.

– الوفد المفاوض يبلغ العشرين، نصفه من الفصائل العسكرية.

– الوفد الاستشاري عدده عشرون، قُسِّم إلى قسمين: عشرة في كل جولة، وأضيف إليه عدد من الاستشاريين الحقوقيين.

– الوفد الإعلامي.

– الوفد التقني، ومعظمه من إطارات الائتلاف الذين يملكون خبرات كبيرة في الميادين التي يعملون فيها.

تراكمت الخبرات لدى المعارضة، في منهجية الحوار وأسلوبه، وفي التفاوض مع المبعوث الدولي الذي ظلّ، طوال الجولات السابقة، الطرف الوحيد الذي يُلتَقى به، ويُتفاعل معه، لأن النظام يرفض الدخول في العملية السياسية، وبالتالي تتسم جميع الجولات بنوع من المناقشات الأقرب للمماحكات، خاصة حول “أوراق دي مستورا” الذي غالبًا ما يفاجئ بها الوفد من دون مقدمات، ومن دون وجود جدول عمل مسبق، ولأنه يريد تحريك ركود الوضع، بواقع الخوف من “الدحرجة” بأن تصبح “أستانا” الممر الأوسع، وربما البديل، وحرصًا منه على النجاح في مهمة معقّدة؛ يطرح أفكارًا حول “السلال” الأربعة، أو يدور حولها، وأحيانًا يُرسل أوراقًا تظهر وكأنها خارج السياق، كالورقة الأخيرة التي قدّمها حول “مبادئ دستورية وقانونية”؛ فأثارت موجة من الملاحظات والاستفهامات والأسئلة.

الحقيقة التي يجب تأكيدها أن غياب الدخول في مفاوضات جدّية، ودوران جنيف في حلقة مفرغة، ووجود هواجس فعلية، أو مضخّمة حول الخلفيات، والتأثيرات الروسية وغيرها، يجعل التعاطي مع تلك الأوراق مشوبًا بمناخات السلب، والهواجس التي تمنع التعاطي الإيجابي مع مقترحات، يمكن أن تشكل ثقوبًا صغيرة تسمح بنوع من التقدّم، والتراكم، والتعاطي بشيء من الفاعلية؛ فتكثر الأسئلة والردود، وردود الردود، وسط أجواء من الانفعال المغمّس بالاتهام.

كان الوفد الاستشاري يشتكي كثيرًا، في الجولات السابقة، من عدم وجود دور محدد له، ويحمّل الوفد المفاوض المسؤولية، ذلك بأنه لا يستشيره، ولا يحدد له أي دور واضح، وبدوره كان الوفد المفاوض يُلقي بالمسؤولية على الهيئة العليا بواقع الفراغ، وعدم وجود قضايا مهمة تستحق بذل الجهد.

هذه المرة كان أمام الوفد الاستشاري ملفات عديدة وثقيلة، وعليه أن يعطي رأيه وأن يعيد صياغة بعضها، أو ينشئه. قدّمت الهيئة العليا مجموعة مشروعات مُنجزة، أو تحتاج لإعادة صياغة، أو صياغات جديدة، وتخصّ السلال الأربع: العملية الانتقالية، والدستور، والانتخابات، ومحاربة الإرهاب، إضافة إلى عناوين أخرى، جرى الاتفاق على تقديم أوراق فيها، وهي: المعتقلون، التهجير القسري والتغيير الديمغرافي، (داعش) والنظام، إيران ودورها.

كذلك طرحت ملفًا كاملًا، ساهم الائتلاف في مناقشته وإجراء تعديلات عليه، حول الإطار التنفيذي الذي يتناول رؤية المعارضة للنظام الديمقراطي البديل، وتشكيل الهيئة الحاكمة الانتقالية، والمؤسسات التي ستنتج أو تتفرع عنها، كالحكومة المؤقتة، والمجلس الدستوري، والمجلس العسكري الأمني، وترتيب الفترات الانتقالية، والاستناد الدستوري عبر إنجاز الإعلان الدستوري، بانتظار صياغة دستور شامل للبلاد، يطرح على الاستفتاء الشعبي، ومسائل تفصيلية متعددة، تؤمن نجاح عملية الانتقال، والعدالة الانتقالية، والمصالحة والتسامح.. إلخ، إضافة إلى لائحة داخلية تخصّ عمل وعلاقات الهيئة الحاكمة الانتقالية، وورقة إجابات شاملة حول ما ورد في القرار الأممي 2254 الذي يوصّف الحكم المنشود بأنه “شامل وديمقراطي وغير طائفي”، ومفهومنا لكل مفردة فيها، وأوراق أولية في معظم الملفات المطروحة.

قامت الهيئة الاستشارية بإنجاز ملفات مهمة حول: مكافحة الإرهاب وتوصيفه، والمعتقلين، والتهجير القسري والتغيير الديمغرافي استنادًا إلى العديد من الوثائق، وإلى مرجعية القرارات الدولية، وحقوق الإنسان، وسُلِّمت للوفد، كما وضعت ملاحظاتها على الإطار التنفيذي، وأنجزت أوراقًا تخص علاقة (داعش) بالنظام، وإيران ودورها لتكون تحت تصرف الوفد المفاوض، حين تبدأ المفاوضات الفعلية.

كانت هناك تباينات وخلافات وملاحظات وانتقادات، تجلّت صارخة هذه المرة بين الهيئة العليا للمفاوضات وعدد مهم من ممثلي الفصائل العسكرية في الوفد المفاوض، أدّت بهؤلاء إلى تعليق مشاركتهم، وسط صخب إعلامي، وتفسيرات تجاوزت الحقائق إلى التوظيف، والفبركة، حين أذاعت روسيا اليوم، وبعض الفضائيات غير المستقلة، أن تشابكًا بالأيدي حصل، وهو الأمر المختلق تمامًا، وقد جرى تفنيد وتكذيب الخبر من قبل الهيئة الإعلامية في الوفد.

في اجتماع مصارحة، بين الهيئة العليا وهؤلاء المعترضين، جرى الاتفاق على العودة للمشاركة بالوفد، وعلى عقد اجتماع قريب، حُدّد زمنه قريبًا في الرياض للمكاشفة وحلّ الإشكالات الموجودة، أو توضيح مبعث كثيرها.

في مستويات مختلفة، وفي معظم مؤسسات المعارضة، نعاني الضعف في الروح الجماعية، وتكريس العقل التشاركي، والعمل المؤسسي، وتشعب المهام وتداخل حدود الصلاحيات بين المؤسسات القائمة: الهيئة العليا للمفاوضات – الوفد المفاوض – الوفد الاستشاري، كما أن آليات التواصل تُولِّد تراكمات تؤدي إلى أشكال من الانفجار، أو الانفعال ما لم يجرِ حلها في وقت مناسب.

لقد استمعت إلى كثيرٍ من الملاحظات والانتقادات من هذه الجهة أو تلك، لكنني أعتقد أن الفراغ، وخيبات جولات جنيف، وعدم الولوج في المفاوضات حتى الآن، وغموض الإرادة الدولية في الاتفاق على حل، ينهي المأساة السورية ويشرع في خطوات جدية لتطبيق قرارات الشرعية الدولية، وبدء مسيرة الانتقال السياسي، تشجّع النظرة السلبية، والاحتقان، والبحث عن معوّضات لفراغ بات مقلقًا، ومشاعر العبثية من هذه الجولات وحضورها.

إن مزيد التفاعل الديمقراطي، ومزيد مشاركة الجميع في صناعة وصياغة القرارات، والشفافية في العمل، وتكثيف التواصل بين الجميع يمكنها أن تزيل الاحتقان الذاتي، وتؤمن مشاركة الجميع بفاعلية. لكن الأساس، في كل ذلك، وجود حل سياسي يجري تجسيده ولو بخطوات أولية، وبغياب هذا الأمر فإن المناخات السلبية، بكل مظاهرها ومنتجاتها، ستبقى قائمة، وتبحث عن مبرر، أو جهة تُلقي عليها المسؤولية.




المصدر