في المسؤولية التاريخية للأدب والنخب


جبر الشوفي

في المراجعة المسؤولة، يبدو غريبًا وصادمًا، أن تعبر النخب السورية السياسية والفكرية والمبدعة على حدّ سواء أحداثًا خطرة ومؤثرة في حياتنا السورية، وأن تتجاوزها حتى من دون أن ترصدها رصدًا فنيًا، أو أن تتدارسها سياسيًا وفكريًا، وتحلل أسبابها ومجمل تداعياتها ومنعكساتها على الوضعين الاجتماعي والسياسي السوري العام، على الرغم من أنها صبغت حقبةً من تاريخنا الوطني، بدم فاض عن حدودها الجغرافية وحاضنتها البشرية، وكان من الطبيعي أن يجدد مفاعيله ويحفز مكبوتاته، لتصبّ في المشهد السياسي والاجتماعي، منذ أتاحت له ثورة السوريين في آذار 2011 أن يستثمر فيها أو يعبّر عنها، بكل ما لابسها من تشوه واشتباك بين صحيحها وخطئها.

أشير هنا إلى مجزرة حماة عام 1982   بوصفها ذروة مجازر عديدة فردية وجماعية، ارتكبها نظام الطاغية حافظ الأسد، وشرّع عبرها كل أنواع الثأر والانتقام، ليس ممن وقف ودفع بأحداث الثمانينيات من عناصر ( الطليعة المقاتلة) للإخوان المسلمين ولا من تنظيم الإخوان المسلمين الذي شكل غطاء سياسيًا لتلك الفئة الجهادية المتطرفة، بل طال القصاص المدينة بكاملها، ثمّ انتقل منها إلى المجتمع السوري، ليدفع بدوره -بشكل مباشر أو غير مباشر- تكاليفَها المادية والمعنوية العاليتين، وأن يتجرع أذاها النفسي والمعنوي، من دون أن يبدي أي مظهر من مظاهر الاحتجاج أو التضامن أو الخروج إلى الساحات والشوارع، فبدا أن حملة النظام الشرسة وحمّام الدم الذي خاض فيه، شكّلا فعلًا تأديبيًا مضافًا إلى المجتمع الصامت أصلًا  مكرسًا “ثقافة الخوف” واقعيًا، بما شكل تراجعًا خطيرًا  وانحسارًا لمسؤولية المجتمع عن شؤونه الوطنية العامة، على حين تماهت معظم نخبه خوفًا ومراوغة وتسليمًا للحاكم الفرد المتألّه الذي لم يعد يستحي، أن يطلّ على السوريين كأي طاغية، يلوّح للقطيع ويتصنّع شخصية شعبية، تنبو عنها بشرته الصفرواية العقربية المنطوية على سمها الزعاف، حتى غدا الخوف تسليمًا وناموسًا عامًا، يسم أيّ مظهر للتذمر أو الاحتجاج الخارج عن سياقه الزمني بالدونكشوتية، ومسيرًا الجميع بمقولة مضمرة وصريحة وواسعة مفادها (ضع الأسد في فمك، وامض)، ومضينا ومضى الأسد بنا، لم يكن لهذا الخوف الذي خدّرنا أن يحلّ لجامنا ولا أن يطلق ألسنتنا، فما من لسان فصيح صالح، إلا للمديح والنفاق والمداورة والتقية، بعد أن طوّعه النظام المستبد على الاكتفاء بالأمن والسلامة وهزّ الرؤوس.

تكاد رواية (مديح الكراهية) الصادرة 2006 لكاتبها خالد خليفة، أن تكون الرواية الوحيدة التي وثقت أحداث الثمانينيات أدبيًا، ولكنها -لسبب أو لآخر- أشاحت بوجهها عن المجازر الجماعية، وانصرفت إلى متابعة حياة المساجين من تنظيم الطليعة ومن المظلومين على الشبهة، وكشفت عن أسلوب تربية واحد، بين الطليعة المقاتلة المأزومة، الذاهبة إلى زرع الكراهية إلى درجة تهوين الجريمة وقتل المخالف مذهبيًا، وبين أساليب النظام الملتف على نواته المذهبية المتصلبة، لتقف الكتلتان المتصلبتان مذهبيًا (النظام والطليعة) متحفزتين كلتيهما، ليس للانقضاض على خصمها المذهبي والسياسي فحسب، بل عليه وعلى المجتمع في آن واحد.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، ففي ذاكرة السوريين، أنّ حماة كانت المدينة السورية الأهمّ، فقد نظمت تظاهرات ضخمة، وتلقت رصاص الشرطة والأمن، وقدمت الشهداء، في مناهضة حملة الشيشكلي العسكرية الظالمة عام1954  لإخضاع محافظة السويداء، باعتبارها (رأس الأفعى) الممتد ذنبها حتى اللاذقية وحلب، حسب تصنيف (أديب الشيشكلي) لأعدائه في طول الساحة السورية وعرضها آنذاك، فما الذي غيّر السوريين، ولماذا مرت تلك الجرائم وغيرها، وكأنها حدثت في جزر منفصلة، بعد سنوات طوال من حكم البعث وأيديولوجيته القومية.

لم تكن سياسة التفرقة بين المكونات ولا ترتيب الطوائف وتبويبها، تبعًا لقربها من طائفة النظام، ولا تأليب العشائر ومكونات المجتمع الأهلي واستخدام بعض وجوهها، كاحتياطي في يده، هي وحدها من فعلت ذلك، بل سياسة غزو أمني منظم، دخل حتى في الأسرة والطائفة والإثنيات، فنخر وجوّف البناء الداخلي لكل هذه الوحدات الاجتماعية، لتتضايف إلى خواء البنية السياسية، حيث يستوي حزب النظام (البعث ذاته) مع بقية الأحزاب التقليدية، حتى فقدت تلك الهياكل والبنى تماسكها الداخلي، وغدت كيانات رخوة منخورة، يهرشها سوس الفساد والاستبداد، ولا يتوقف عندها؛ بل يتعداها ليطول كل البنى المجتمعية والثقافية والسياسية المتآكلة، لم ينج منه إلا من صان جلده بالالتفاف حول ذاته المهزومة المقهورة، في ظلّ سقوط صوت الجماعات المنقسمة عموديًا وأفقيًا في تقاطع غريب بين الانقسامين، ولم يعد يتردد في الساحات والمنابر سوى صوت القائد، متفرعًا في أسطوانات، تتردد أصداؤها في إيقاع واحد ورتم واحد، وفي مسيرات المنومين مغناطيسيًا والمنافقين.

أمام هذه المعطيات وغيرها، وفي ظلّ انتهازية الفئات المدنية الوسطى التي ألقت بجزء من ثقلها في أحداث الثمانينيات، ثمّ ذهبت بعدها إلى مبايعة نظام حافظ الأسد، فأخذت حصتها من المكاسب المادية وشاركته فساده، وتركت له شؤون البلاد السياسية ولم تعد تسأله عن شيء، ثمّ غابت وتشوهت تلك الفئة المعروفة بالفئات الوسطى، باعتبارها الحاضنة الأهم للثقافة والقيم الوطنية، والمحققة للتوازن الثقلي في بنية المجتمع الفسيفسائية، وفي ظلّ غيابها فقدت الثورة السورية ثقل (المدن الكبرى)،  مما طبعها بطابع ريفي شعبوي واسع وبسيط.

لقد تجاهل الأدب السوري -بعامة- نشر “فضائل” النظام الأمني الذي أسسه حافظ الأسد، وتشريحه داخليًا، واكتفى بمعالجة تداعيات هزيمة حزيران المذلة، بخطابية عالية وانفعالية وجداينة، أبعدته عن تلمّس الجوهر السياسي الحضاري للهزيمة، وفي مثلها ذهب إلى تمجيد ما سمي انتصار تشرين، وظلّ معظم الأدباء، يكتب في الوطنيات والقوميات، بوصفها عموميات تمرر الحاكم الفرد ولا تحمّل صاحبها مسؤولية، بينما قبعت الحرية يتيمة، تنتظر من يجلو صورتها، وكان عليهم أن يصمتوا عن نظام التوريث الشاذ، وأن يتوهم بعضهم وجود الحرس القديم والحرس الجديد، حتى (وقع الفاس بالراس)؛ فدفع الجميع ثمن سكوتهم وتراجعهم عما كان يجب تقديمه، ومن المؤسف أكثر، أنّ الطوائف لاذت خلف هذا المشهد الضبابي، وكمنت على خوفها الغريزي، ليكون حلف الطوائف والنظام الطائفي، في مقابل أكثرية البلاد وركيزتها التاريخية.

لم يبحر الأدباء ولم يلتقطوا تلك الخيوط التي راحت تتفلت من مسار البلاد الوطني، بل غمس معظمهم رأسه في مقولات التحرير الكاذب، ملتفتًا إلى الخارج، بوصفه مصدرًا دائمًا للعدوان والتآمر، ولم تكشف عن خيوط اللعبة الأمنية العنكبويتة الممتدة في كل الجهات، فهل تحرر الثورة الأديبَ، وهل تعيده إلى ملاعبه، ليكشف عن خبايا مجتمعه ويجعلها ثقافة، توظف في طريق التغيير والتطوير؟!

إنه سؤال الحرية الصعب، ولا بد من معاقرته وإعادة طرحه وإبداعه من جديد!




المصدر