مهجرو حي برزة الدمشقي… رحلةٌ إلى المجهول


ولاء عساف: المصدر

في هذا الوطن الجريح، تطفو الأمنيات على جراح الخيبة، الخيبة من كل شيء من الناس ومن العالم، من أنفسنا التي لم تعد تحس براحة ولا بهناء، يحس الإنسان أنه يقبع في متاهة لا نهاية لها، في دوامة أبدية من الوجع والحرمان.

الغربة تسكنه، تسكن أعضاء جسده، حتى جسده يشعر أنه ليس له، هو للموت الذي يسكننا، الذي يتزاحم على امتلاك أرواحنا المتعبة المكسورة.

تآمر علينا كل شيء، حتى الماء والهواء، أصبحنا عراة لا سكن ولا مأوى سوى خيمة تلوح مع كل نسمة هواء.

كانت تنهش أفكاري هذ الكلمات وأنا انتظر وصول حافلات مهجري برزة إلى قلعة المضيق، وقفت أحمل كاميرتي وأترقب حائرا.

حتى وصلوا وبدأت الباصات تقترب واحداً تلو الآخر، وتتالى نزول المهجرين… أناس بسطاء متعبون، حنت الهموم ظهر على الصغير فيهم قبل الكبير، لفت نظري رجل عجوز يحمل أمتعته الثقيلة دون تذمر، اقتربت منه، نظر إليّ بخشية وقال لي: “لا تنظر إليّ هكذا، نظرة الشفقة تلك أنا أكرهها، أخرجوني مرغماً من بيتي”.

سألته عما يحمله، فقال: “صور أولادي، 4 شهداء لم أسمح لنفسي بترك صورهم التي لم يبقَ منهم ومن رائحتهم سواها…”، وتابع سيره غير آبه بردة فعلي.

عاودت مراقبة تزاحم الناس على النزول، أقبلت نحو سيدة كانت تتدافع مع الناس وهي تمسك أولادها، صبي وابنة عمرهما حوالي الـ 6 أو 7 سنوات، وتحمل طفلاً في حضنها عمر أشهر، تتلفت حولها وكأنها قد أضاعت شيء ما.

سألتها المساعدة، فابتسمت ابتسامة متعبة مريضة، وقالت لي: “على ماذا تساعدني… فحملي الثقيل ليس بأطفالي الصغار، بل بالهموم التي تتزايد مع تزايد أعمارنا”.

ساعدتها في حمل الحقائب، وعندما سألتها عن وجود رجل معها طأطأت رأسها وقالت: “أهلي لم يبقَ منهم أحد، مات واحدهم تلو الآخر، وزوجي كان قد سبقني برحلة ولا أدري إن كنت سأجده أو لا، قال لي سيقابلني في مخيم يدعى مخيم ساعد”.

وأنا أحادثها اقترب مني ابنها الصغير وقال لي: “أتدري يا عماه أن العلوية بصقوا علينا؟ فقد مرت الباصات في قرى علوية، لكنني بصقت عليهم أيضا… ولعنتهم فهؤلاء قتلوا لي جدي وأعمامي”.

وتابعت المرأة قائلة: “لم يكتفوا بإخراجنا من بيوتنا، بل راحوا يبصقون علينا ويهزؤون بنا… لنا الله”.

وعندما سألتها عن شعورها وهي تغادر منزلها، راحت تبكي، وقالت: “عندما تنظر تلك النظرة الأخيرة للمنزل لا تدري هل تعود لتراه مرة أخرى أم لا، هذا المنزل الذي بنيناه أنا وزوجي لبنة لبنة، تترك كل شيء فيه كل ذكرى وكل أمسية وكل حلم… تشعر أن شمعة ما في قلبك قد احترقت… أنك تنسلخ عن نفسك… تودع جزءً منها إلى الأبد”، وأشارت إلى قلبها قائلة: “هنا شيء ما يحترق، ولن تطفئه باقي أيام عمري كلها”.

ساعدتها كي تركب إحدى السيارات وتصل إلى المخيم الذي يتواجد فيه زوجها… ودعت الطفل الشقي وحييته على عمله البطولي.

نحن شعب مات فينا كل شيء إلا نبض هذا القلب مازال مصراً على البقاء.





المصدر