إلى أهلنا في الجولان


ماجد كيالي

في رحلتي الأولى إلى بلدي، وبلد أجدادي -فلسطين- أخذتني الأقدار إلى الجولان، إلى المدينة الرائعة مجدل شمس التي تقع على قمة أحد جبال الهضبة، حيث قضيت ليلتي الأولى فيها، ثم قضيت يومين أتجول في ربوع تلك الهضبة الشماء المدهشة بكل شيء، بناسها وهوائها وبساتينها ومرتفعاتها، وبصمود أهلها.

ربما شاءت الأقدار، في هذه الزيارة، أن تؤكد هويتي كفلسطيني – سوري، أو كسوري – فلسطيني، سيان، إذ لم أعد أعرف -أو لم يعد يعنيني- أيًا من تلك الهويتين تتملكني أكثر من الأخرى، وهذه ليست مشكلة بالطبع، إذ تصالحت هويتي الفلسطينية مع السورية، بخاصة أن فلسطين بالنسبة لي ليست مجرد قطعة أرض، ولا بيتًا للسكن، ولا مكانًا للإقامة، لأنني لم أتمكن من ذلك، منذ مولدي قبل 63 عامًا، وإنما هي معنى للحرية والكرامة والعدالة.

هكذا تلاقت فلسطين التي تسكن ذاكرتي ومشاعري وهمّي، طوال عمري، بسوريتي، التي عشتها، أيضًا، طوال عمري، حيث ولدت وترعرعت ودرست وتزوجت وربيت أولادي، وأنشأت صداقات، وحيث وجدت نفسي في ثورتها، وفي توق شعبها للحرية والكرامة والمواطنة والعدالة والديمقراطية، وهو الحلم الذي عشت عليه طوال حياتي، وأنا أشهد على نكبة السوريين بنظام الأسد.

تلك الرحلة التي امتدت على مدار يومين كانت جميلة بفضل الشابين الرائعين، من أبناء الجولان: أيمن أبو جبل ووئام عماشة، ثمّ شاركهم في ذلك د. فوزي أبو جبل. اكتشفت أنهم لا يقلون فلسطينية عني، وأننا معًا فلسطينيون وسوريون وبالعكس، إذ لم أرَ فلسطينيًا لا يعرفهم. أيمن ووئام أخذاني (مع الصديق د. أسعد غانم) في جولة في اللد (بلد الأهل) برفقة مخلص برجال الذي أطلعنا على كل شبر في اللد، حتى على مكان بيت الراحل جورج حبش، بروح الفلسطيني ابن البلد، وهو ما فعله أيضًا أحمد الصفوري في يافا، لأكتشف، بعد ذلك، أنني بين جمعٍ من الأسرى المحررين: أيمن ووئام ومخلص وأحمد الذين دفعوا أجمل سنيّ حياتهم في المعتقلات الإسرائيلية.

في زيارتي لمجدل شمس، أيضًا، كان أول لقاء لي في بلدي سورية ـ فلسطين، في صالون الجولان (المنبثق عن مركز حرمون)، حيث التقيت بجمع من شخصيات المدينة، والناشطين في المركز، وكان لقاء حارًّا، ومؤثرًا، مليئًا بالمشاعر، ومفعمًا بروح الأمل، وكان محطة لتبادل الرأي حول واقع سورية وفلسطين، وعن العمل حيالهما، وكثير من الأسئلة؛ وهو أمر يُحسب لمركز (حرمون) الذي أتمنى له مزيدًا من التطور والنجاح.

في هذه الزيارة تذوقت كرز الجولان من شجرها مباشرة، لكن الأهم من كل ذلك أن مشاهدتي لهضبة الجولان، بتضاريسها الصعبة بجبالها ووديانها، حرضتني على طرح الأسئلة المرة والصعبة والحارقة. تساءلت: يا شباب، كيف سقطت الجولان؟ كيف يمكن لمثل هذه الهضبة أن تسقط؟

كنت أتطلع إلى الهضبة، وصولًا إلى بحيرة طبريا الجميلة والأخاذة، بقلب محروق، مع كل هذه المساحات الواسعة، بمدنها الرائعة، بشعبها الحي الذي رفض الهوية الإسرائيلية، وأكد انتماءه القومي والوطني، كيف يمكن أن يُترك لبضع مهرجانات استعراضية؟

كيف، وألف كيف، طرحتها على الشباب أيمن ووئام وفوزي، وكنا نشعر بغصة ومرارة، ونحن ننظر إلى الطرف الآخر، إلى سورية التي تقبع تحت رحمة البراميل المتفجرة والصواريخ الفراغية والارتجاجية، بينما العدو يعيش بسلام ووئام، وهو المحتل، يصادر أراضي الجولانيين، ويضيق عليهم عيشهم، ويقدم لهم الإغراءات لسلبهم هويتهم ومقاومتهم وكرامتهم، فيما يواجهونه بشجاعة وإباء.

كانت مدينة القنيطرة أمامنا مجرد بيوت مهملة لم يُسمح لسكانها بالعودة إليها، فيما تنظّم الرحلات للإسرائيليين، أطفالًا وشبابًا وشيوخًا، للتمتع بالهضبة على بعد بضع أمتار من القنيطرة.

أما بحيرة طبريا، فكان المنظر فيها آسرًا حقًا، بحيرة في غاية الروعة، وجبال تناطح السماء، وشعب أبيّ يسطّر كتابَ صموده كل يوم. كيف حصل هذا، يا الله! كيف انتُزعت هذه الهضبة من الجسد السوري!

في هذه اللحظات، أكتب هذه المادة من مدينة القدس، من قرب أسوارها العتيقة، وأنا أكثر تأكدًا من أن “إسرائيل” التي في الجولان، وفي القدس، وفي مناطق الضفة وفي 48، هي ذاتها الدولة الاستعمارية الاستيطانية الاحتلالية العنصرية والأيديولوجية (الدينية)، تلك هي “إسرائيل” وهذه حقيقتها، وأي تعامل معها، على غير هذا الأساس، لن يؤدي إلى نتيجة، ولن يفضي إلا إلى مراهنات وتوهمات.

تحية لكم، أهلَنا في الجولان، أيها السوريون البواسل، أيها الفلسطينيون السوريون تحية لكم، وتحية إلى أيمن ووئام، فلولاهما ما رأيت الجولان.




المصدر