حين عاد جورج حبش مع الكيالي إلى بيته..


أيمن أبو جبل

عاد ماجد كيالي الكاتب الفلسطيني السوري، والمولود في مدينة حلب السورية، بعد ستة أعوام من تهجير عائلته من مدينة اللد، إلى أرض البرتقال الحزين. وهو من أكثر الناس إدراكًا وإحساسًا بمعنى العودة واللقاء، بعد أن تهجرت عائلته الصغيرة التي تعيش اليوم في ظل النزوح القسري السوري الجديد طلبًا للحياة، ما بين أميركا والإمارات وتركيا وبريطانيا.

عاد ماجد كيالي إلى مدينته اللد، عاد إلى مدينته التي عشق يافا، ووطنه الذي غاب عنه قسرًا فلسطين، ليكون ضيفًا ومُضيفًا في وطنه، على مختلف الفاعليات الأدبية والفكرية والدراسية في مناطق الجذر الفلسطيني، وفي مناطق السلطة الفلسطينية، وليخص الجولان السوري المحتل الذي يحتل زاوية خاصة وغالية في فؤاده، بزيارة إلى أهله وناسه وأجوائه، لما للجولان السوري في الوجدان السوري من مكانة غالية في نفوس من استنشق الهواء السوري، واكتوى جسده بسوط الظلام والظلم السوري الذي طغى على وطن الإنسان الأول منذ خمسين عامًا.

كان لا بد من تجديد الروح والفكر والحلم بزيارة الجولان، والالتقاء مع زملائه ورفاقه في صالون الجولان التابع لمركز (حرمون) للدراسات المعاصرة، بحكم أنه أول إطار جامع بين سوريين وسوريين بعيدًا عن أجهزة الأمن والأفرع الأمنية السورية التي استأثرت بالقضية الوطنية السورية، في الجزء المحتل من الجولان، كقضية استهلاكية ترويعية قمعية.

جولة الكاتب الفلسطيني السوري العضو الإداري في صالون الجولان في فلسطين والجولان المحتل، تخللها لقاءات مع باحثين ومفكرين وكتّاب وصحفيين فلسطينيين وجولانيين، في مؤسسة مدى الكرمل، ومؤتمر تنمية القدرات البشرية في المجتمع الفلسطيني، ومؤتمر جامعة أبو ديس في القدس، وبير زيت وصالون الجولان في الجولان المحتل، وبلدة شعب في الجليل الفلسطيني، بضيافة بروفيسور أسعد غانم.

كانت تلك الزيارة أشبه بلقاءات وجدانية وشخصية، إضافة إلى ما حملته على الصعيد السياسي والفكري والوطني الفلسطيني؛ فقامة وطنية فلسطينية سورية كماجد الكيالي تستحق أن تترك بالغ الأثر والتأثير على كل الأطر والفاعليات والشخصيات التي كان لها شرف اللقاء معه.

أبا سلام، ماجد الكيالي حللت أهلًا، ووطئت سهلًا.. في وطنك. وفي جولانك الذي أحببت. لن ننسى تلك الدموع الطاهرة التي روت تراب فلسطين والجولان السوري وطبريا. لن ننسى قطرات العرق التي بللت ثيابك، ولامست المياه في كنيسة كفر ناعوم من منطقة العيون في بحيرة طبريا. لن ننسى صدق عيونك ودموعك وأنت “الحلبي الدمشقي اللداوي” تتفحص الجولان وتحصيناته العسكرية والأمنية قبل خمسين عامًا، لن أنسى تلك الأسئلة. كيف سقطت قلعة الجولان تحت الاحتلال؟ كيف استطاع مَن ملك الجولان، وكان تحت سيادته أن يدعو أهله وجنوده إلى الهروب والانسحاب في بلاغه المشؤوم رقم 66.

أبا سلام، ماجد الكيالي، لن ننسى أنك عدت من المنافي العربية إلى بلادك المنسية، إلى بلاد تشبهك لتثبت أن فلسطين لا زالت فلسطينية، وأن أحمد ومخلص وفوزي ومحمد وشباب ميناء يافا لا زالوا يحملون بفخر وحب أغنيات سميح شقير: بحرك يافا يا حلم عيون الصيادي.

لا يمكن اختزال تاريخ فلسطين أو محوه بإحلال تاريخ آخر مكانه مستمد من حكايات لاهوتية لا تمت إلى التاريخ والواقع بصِلة، كما لا يمكن محو الذاكرة واختصارها بتاريخ مُستجد لا يزال يخضع للكتابة والتجديد.

هنا في هذا المكان عانق الكاتب الفلسطيني السوري أو السوري الفلسطيني أبو سلام ماجد كيالي قريته ومسقط رأسه قبل 9000 عام. هنا رائحة الماضي الفلسطيني، هنا اللد. هنا أرض كنعان. هذه هي فلسطين التي لا تمحوها عوامل التهويد وكل عوامل الأزمنة والعصور التي تعاقبت عليها.

هنا ولد ونشأ وكبر د. جورج حبش. هذا بيته وهذه حديقته، وذاك هو البئر القديم ومنارة الأربعين والساحة الشرقية، هنا هرب محمد بن أبي حذيفة وجماعته، في عهد معاوية بن أبي سفيان، بعد مقتل الخليفة عثمان بن عفان. ذاك الجامع العمري الذي بناه الظاهر بيبرس. وهنا إلى جانبها كنيسة القديس جورجيوس الذي يُعرف بالخضر، وهذا جسر جنداس وخان الحلو، تعالوا وشاهدوا بئر الزنبق وبئر أبو شنب وبئر أبي محمد عبد الرحمن بن عوف، هذه هي اللد يا أبا سلام. وهذا مسجد دهمش الذي بناه خليل دهمش.

هذه هنا كنعان. هذه هي فلسطين، هذه هي اللد مسقط رأسك وأجدادك، هنا كان يجلس خالك محمد الكيالي أول وآخر رئيس بلدية لمدينة اللد قبل النكبة، وهناك بقايا الإنسان الأول في اللد، في مغارة “شفة” التي تقع في وادي النطوف. وهذا أنا هنا، وهنا قبر أجدادي ومسقط رأسي وأولادي.

كان “مخلص برغال” رفيقنا من مدينة اللد الكنعانية الفلسطينية، والسجين السياسي لـ 28   عامًا في السجون الإسرائيلية، قد ترك عمله في المخبز، ليكون في استقبالنا، وضيفنا القادم من الشتات الفلسطيني، ومن النزوح القسري السوري، بواسطة جواز سفره الأميركي، ومُضيفه من أرض الجليل الفلسطيني بروفيسور أسعد غانم. المُضحك المُبكي أنّ جواز سفرٍ من عدوتنا التاريخية الأولى “الإمبريالية الأميركية” أتاح لنا أن نلتقي ونجتمع نحن -الفلسطينيين والسوريين- في الأرض المحتلة بمن نفتقدهم وتفتقدهم أوطاننا التي تقيحت جراحها شوقًا وحزنًا، بانتظار فرح قادم.

كان مخلص برغال ابن مدينة اللد الفلسطينية يتحدث بشوق ووجع عن بلدته التي طواها النسيان العربي، ويهددها موت التهويد، لكن الجغرافيا والتاريخ والذاكرة لا زالت تشتعل في فؤاده، وفي تلك الأحياء العربية الفقيرة من المدينة التي تأكلها عمليات التهويد، ليثبت للقاصي والداني أن اللد لا تزال كنعانية فلسطينية عربية، ولا تزال قادرة على احتضان أبنائها كل أبنائها الذين كوتهم سياط الغربة والشتات.

ماجد الكيالي، عدتَ إلى فلسطين فدائيًا من معركة الكرامة والعرقوب اللبنانية. عدتَ رجلًا تختصر كل الحكاية الفلسطينية من اللد ويافا والطيبة وطبريا وشعب الجليلية، مرورًا بحلب الشهباء السورية وحي الزاهرة الدمشقي والحجر الأسود ومخيم اليرموك عنوان الكرامة الفلسطينية التي اغتيلت في ظل الحرب السورية، مرورًا بأرض الجولان السورية المنسية، وليس انتهاءً بالقدس ورام الله الفلسطينية.

أهلا بك، أيها الفلسطيني السوري أو السوري الفلسطيني، بين أهلك وعائلتك وفي أحضان وطنك الغائب عن الأجندة الدولية والعربية.




المصدر