رسم حدود النفوذ بالنار


المدن

لم يغير الإعلان الرسمي عن قيام التحالف الدولي بتنفيذ ضربة جوية ليل الخميس 188 الجاري ضد رتل عسكري في بادية الشام بالقرب من معبر التنف، على الحدود السورية العراقية، من حقيقة أن الطائرات التي قصفت الرتل، المكون من قوات للنظام السوري وميليشيات شيعية عراقية وإيرانية (كتائب الإمام علي، قوات313، الإبدال، وهي مليشيات شيعية مدعومة من إيران مباشرة، ضباط من “مليشيا النمر” التابعة لقوات النظام) طائرات أميركية، وأن الضربة رسالة قوية من الإدارة الأميركية إلى كل من النظام وإيران تحذّر من مغبة الاقتراب من القوات التي ترعاها الولايات المتحدة والتي جهزتها لاستكمال السيطرة على منطقة نفوذ لها شرق نهر الفرات(محافظات ديرالزور والرقة والحسكة)، وقد أكدت فحوى الرسالة بإعلان وزير الدفاع جيم ماتيس “إن الولايات المتحدة لا ترغب في توسيع دورها في الحرب في سورية لكنها ستدافع عن قواتها إذا استدعت الحاجة”.
وقفت خلف الضربة الأميركية ثلاثة دوافع أولها موقف الإدارة الأميركية الجديدة من الدور الإيراني في سوريا والعراق، وخاصة من تحرك طهران لإنشاء ممر بري يجتاز الأراضي العراقية والسورية يربط الأراضي الإيرانية بكل من لبنان والبحر الأبيض المتوسط حيث وجهت الميليشيات الشيعية في سوريا والعراق إلى العمل على بسط السيطرة على المناطق التي سيجتازها الممر في سوريا والعراق، فأرسلت ميليشياتها في سوريا إلى شرق تدمر وبلدات في ريف حمص الشرقي، ومثلث بادية الشام، وقوات الحشد الشيعي في العراق إلى منطقة القيروان والبعاج والرطبة والقائم المحاذية للأراضي السورية، فبسط السيطرة وإنشاء الممر البري يعزز قدرتها الردعية بالتواجد على الحدود اللبنانية والأردنية والإسرائيلية، من جهة، ويجعلها قوة إقليمية مهيمنة في الشرق الأوسط، من جهة ثانية.
وأما ثاني الدوافع فإبراز تعارض التحرك الإيراني الميداني مع توقيعها، كدولة ضامنة، على اتفاقية خفض التصعيد في اجتماع أستانة الأخير. وثالثها توجيه رسالة طمأنة لحلفاء الولايات المتحدة في إسرائيل والأردن والخليج العربي قبيل توجه الرئيس الأميركي إلى المنطقة بتأكيد التزامها بالدفاع عن أمن حلفائها وحمايتهم.
جاء الرد الأميركي بالعمل على قطع الطريق على المشروع الإيراني بالسيطرة على منطقة شرق الفرات عبر تسريع عملية طرد “داعش” منها والسيطرة عليها بالاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية في محافظة الرقة، وعلى فصائل من الجيش السوري الحر(جيش المغاوير، جيش اسود الشرقية، أحرار الشرقية، قوات الشهيد أحمد العبدو، شهداء القريتين، والمجلس العسكري في المنطقة الجنوبية) في محافظة ديرالزور، التي بدأت عملياتها من قاعدتها في التنف. وهذا أعطى لبادية الشام ومعبر التنف أهمية عسكرية وسياسية في الصراع على سوريا.
لم تكتف واشنطن بالضربة الجوية بل اتبعتها برسائل سياسية باتفاقها مع الدول العربية والإسلامية ((55 دولة) على “إدانة المواقف العدائية للنظام الإيراني، واستمرار تدخلاته في الشؤون الداخلية للدول، في مخالفة صريحة لمبادئ القانون الدولي وحسن الجوار، مؤكدين التزامهم بالتصدي لذلك”، وفق ما جاء في البيان الختامي للقمة العربية الإسلامية التي شارك فيها الرئيس الأميركي، بالإضافة إلى ما كانت فرضته مؤخرا من عقوبات على النظام السوري(فرض عقوبات على خمسة أشخاص وخمسة كيانات، إيهاب وإياد مخلوف، شقيقا رامي مخلوف، محمد عباس، مسؤول عن إدارة شركتي “الأجنحة” في دمشق، و”بارلي أوف شور” في بيروت، محمد بن محمد بن فارس قويدر، مدير العقود في “مركز البحوث والدراسات العلمية”، جمعية البستان الخيرية ومديرها سمير درويش، بنك الشام الإسلامي) وحزب الله اللبناني(عقوبات على رئيس المجلس التنفيذي هاشم صفي الدين، سبقتها حزم عقوبات على ممولي الحزب وملاحقة نشاطاته المالية خاصة من تجارة المخدرات) بالإضافة إلى فرض عقوبات على شخصيات إيرانية وشركة مقرّها في الصين على خلفية برنامج إيران الصاروخي.
أثارت الضربة الأميركية حنق روسيا واستياءها الشديد من التحرك الأميركي في شرق سوريا حيث تناوب وزير الخارجية ونائبه ونواب في البرلمان الروسي على انتقاد الضربة الأميركية ووصفها بـ “غير شرعية وغير قانونية” و “إن موقف واشنطن الحالي حيال سورية متواطئ مع الإرهابيين”، وفق تصريحات وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، و “غير المقبولة”، و “انتهاك للسيادة السورية”، وفق تصريح نائب وزير الخارجية غينادي غاتيلوف، و “عمل عدواني أحادي الجانب ضد دولة ذات سيادة”، وفق تصريح النائب الروسي وعضو اللجنة الدولية في مجلس الاتحاد، إيغور موروزوف، الذي اتهم الأمريكيين بالعمل على “الإطاحة بالرئيس بشار الأسد واستمرار الثورة الملونة التي أطلقوها في البلاد”.
ارتبط رد فعل روسيا بدقة وحساسية اللحظة السياسية بالنسبة لدورها ومصالحها فقد انهارت مراهناتها على شهر عسل مع الإدارة الأميركية الجديدة، ووجدت نفسها بين نارين، نار خصم قوي عاد بقوة إلى ساحة كانت حققت فيها مكاسب كبيرة، اعتبرتها حاسمة وتؤهلها في إدارة الملف وحله بشروطها، ما يطرح احتمال العودة إلى المربع الأول من خلال إعادة تشكيل خريطة التحالفات في الإقليم في ضوء تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة واحتمال حصول تغير في مواقف الدول العربية والإقليمية من الدور الروسي في سوريا والإقليم، ويرتب خلط الأوراق، ونار حلفاء لم يتجاهلوا تحذيراتها من مهاجمة التنف فقط بل وراحوا يتحركون ميدانيا دون اعتبار لمستدعياتها العسكرية والسياسية. فاندفاع الحلفاء إلى البادية تم دون أخذ التحفظات الروسية بعين الاعتبار ما سمح لواشنطن بتوجيه الضربة العسكرية التي ستعني من بين أشياء كثيرة تآكل الردع الروسي وكشف محدودية قدرتها على الدفاع عن حلفائها، وانهيار إستراتيجيتها المرتكزة إلى عسكرة السياسة الخارجية، وانعكاسه الخطير على قدرتها على استثمار دورها في سوريا وتحويله إلى مكاسب سياسية وإستراتيجية صلبة عبر عقد صفقة شاملة مع واشنطن تسمح بتكريس دور وازن لها على الساحة الدولية، وهذا سيرتب آثارا سلبية كبيرة على النظام الروسي في الداخل والخارج.
رفعت إيران سقف التحدي(قالت وكالة فارس الإيرانية:”إن طهران سترسل 30000 مقاتل من حزب الله إلى معبر التنف لإحباط ما سمتها “المؤامرة الأميركية”) وتحركت لاستكشاف المدى الذي يمكن أن تذهب إليه الإدارة الأميركية في قرارها قطع الطريق بين دمشق وبغداد عبر إعادة محاولة السيطرة على معبر التنف بإرسال ميليشياتها لمهاجمة المعبر بعد 48 ساعة من الضربة الجوية الأميركية. ما يرجح وقوع صدام مباشر أو بالوكالة بين الطرفين في ضوء إصرار الولايات المتحدة على قطع الطريق والتصدي للدور الإيراني ضمن خطة لتحجيم النفوذ الإيراني في الإقليم وإعادتها إلى حدودها وإجبارها على التصرف كدولة طبيعية، وتمسك إيران بمشروعها إنشاء الممر البري كمدخل للحفاظ على مكاسبها الجيوسياسية والجيوستراتيجية في سوريا والإقليم.
(*) كاتب سوري




المصدر