ليس بالمفخخات وحدها يُقتل نازحو مخيم الركبان


بعد مضيَ نحو قرنٍ من موجة اللجوء التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، والتي أدّت لتبعثر أكثر من 60 مليون مواطن أوروبي في أصقاع الأرض، بحثاً عن ملاذٍ آمنٍ للحياة، تُعيد المأساة السورية اليوم، التذكير بالظروف التي عاشها أولئك اللاجئون في تلك المرحلة.

تتكرر المشاهد من مكان لآخر، ومن زمن إلى آخر، لكن أقسى ما فيها هو تلك التجمعات السكانية الضائعة بين الهرب من لهيب المعارك إلى أمان مرتجى، وبين حسابات دولٍ وقوى تصغر أو تكبر لكنّ الجامع بينها هو الشراكة في الجريمة عن قصد أو غير قصد.

ولعلَّ من أبرز تلك التجمعات التي تختزل مأساة التاريخ والجغرافيا هو مخيّم “الركبان” الواقع جنوبي شرقي سوريا، قرب الحدود المشتركة مع الأردن والعراق، ويقع المخيم في منطقةٍ لا تتوفر فيها أي مقوّمات للعيش الآدمي، ويفاقم مأساة قاطنيه ما يتعرّض له بين الحين والآخر من هجماتٍ دموية عنيفة، تجعل أمن مئات الآلاف داخله على المحك.

 

مساعدات بالرافعات والطائرات

تُشرف السلطات في “الشقيقة” الجنوبية الأردن على إدارة المخيّم، الذي تأسّس في عام 2015، ويمثل تجمّعاً بشرياً كبيراً يصل إلى حدود 80 ألف نسمة.

ازدادت أحوال المخيّم سوءاً، بعد أوّل تفجيرٍ تعرّض له في 21 من حزيران في العام الماضي، والذي تبنّاه تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” بعد أن أرسل شاحنة مفخّخة أودت بحياة سبعة جنود من حرس الحدود الأردني، الذي كان عناصره يتواجدون بمحيط المخيّم.

إثر ذلك الهجوم الدموي، حُوصر سكّان المخيّم، فأغلقت السلطات الأردنية الحدود مع سوريا رسمياً، على طول الشريط الممتد على مسافة 378 كيلو متراً، معلنةً أن “المخيّم بات مرتعاً لتنظيم داعش”، في نظَرها.

بعد الإغلاق توقّفت حملات الإغاثة والمساعدة الطبية والصحية بشكلٍ تام، وازداد وضع المدنيين في المخيّم سوءاً، وبدأت آثار المجاعة تظهر على ملامح الحياة فيه، إلى أن قامت الأمم المتحدة بإدخال المساعدات عبر الرافعات في الخامس من شهر آب من العام الماضي أي بعد نحو شهرٍ ونصف من الحصار.

وأعلن “برنامج الأغذية العالمي” حينها أن عملية إدخال المساعدات استمرت لمدة ثلاثة أيام، واستخدمت فيها الرافعات وطائرات بدون طيار لمراقبة العملية والتأكد من أنها تتم بطريقة منظمة، وهي المرة الأولى في عمليات برنامج الأغذية العالمي في جميع أنحاء العالم التي يستخدم فيها الرافعات لتسليم مواد الإغاثة، لذلك فقد تم تدريب قادة المجتمع وزعماء القبائل على كيفية تلقي إمدادات الإغاثة وتنظيم عملية توزيعها.

وقال مجيد يحيى، ممثل برنامج الأغذية العالمي والمدير القطري في الأردن: “إنّ غالبية هؤلاء النازحين هم من النساء والأطفال وكبار السن، وكثير منهم مرضى وجرحى لا يمكنهم الحصول على الغذاء والإمدادات الطبية، ويعيشون في خيام مؤقتة في درجات حرارة تتجاوز 50 درجة مئوية ولذلك قمنا بهذه العملية الاستثنائية لنوفر لهم بعض مواد الإغاثة المؤقتة على الأقل”، لافتاً إلى أن المساعدات التي تم تسليمها تحتوي على 650 طناً من المساعدات الإنسانية.

بعد هذه الحادثة عادت المساعدات لتدخل إلى المخيّم بإشرافٍ من السلطات الأردنية ولكن بشكلٍ جزئي وتحت رقابتها، عبر فصيلٍ تابعٍ لـ “الجيش السوري الحر” يُدعى “جيش أحرار العشائر”.

 

 

مفخخات بالجملة

لم تتوقف التفجيرات عند تلك التي أدّت لإغلاق الحدود، وإنما تواصلت لتضرب المخيّم بين الحين والآخر، وكان آخر تفجير تعرّض لها المخيّم في الخامس عشر من شهر أيار الجاري، وأدّى إلى حالة فوضى بين المدنيين هناك، دون التحقق حينها من طبيعة التفجير والإصابات التي تسبب بها، وتضاربت الأنباء حينها حول ما حدث.

وسبق للمخيم أن تعرّض لتفجيرٍ مماثل في الأسبوع الذي سبق ذلك، وأسفر عن وقوع عشر قتلى وعدد كبير من المصابين، وفقما وثّقت “صدى الشام” بعد الرجوع إلى أرشيف الأخبار المتعلّقة بالمخيم.

وفي الرابع من شهر أيار الجاري أيضاً، استهدفت سيارة مفخّخة مركبة عسكرية تابعة للجيش الحر على أطراف المخيّم ما أسفر عن سقوط عدد من القتلى والجرحى، في صفوف المقاتلين.

وقبل هذا الانفجار بأقل من شهر، أي في الثامن من شهر نيسان الماضي، انفجرت سيارة مفخّخة داخل المخيّم قرب السوق الرئيس، وأوقعت أربعة قتلى مدنيين وعدداً كبير من الجرحى، في مسلسل التفجيرات المستمر.

 

ما علاقة المخيم بقاعدة التنف؟

على ما يبدو أن معضلة المفخّخات لن تنتهي في القريب العاجل، إذ يرى مراقبون أن التنظيم يوجّه رسالة قوية إلى الأردن مفادها أنه سيستمر في جعل حدوده مشتعلة من بوّابة هذا المخيم، في حين يبقى المدنيون البالغ عددهم 80 ألفاً الضحية الأولى لهذه الهجمات.

وعلى الرغم من وجود المخيّم في منطقة منزوعة السلاح بعمق 3 كيلو متراً داخل الأراضي السورية، غير أن التنظيم لا يلقي بالاً للأعراف الدولية التي حدّدت مناطق للمدنيين.

ويربط عسكريون بين الضربات التي يوجهها التنظيم للمخيم وبين أهداف عسكرية مرتبطة بموقعه.

ويقع مخيم “الركبان” على مقربة من قاعدة التنف الحدودية العسكرية، الخاضعة لإدارة التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا، والتي تساهم في تدريب مقاتلين من “الجيش الحر”.

وتزامنت هجمات التنظيم مؤخراً على المخيم مع أخرى مشابهة استهدفت معبر التنف الحدودي.

ويقول د.محمد مصطفى جراح، الناطق الرسمي بجيش مغاوير الثورة، العامل في المنطقة، لـ صدى الشام : “إن التنظيم فشلَ في الآونة الأخيرة، وبعد عدّة محاولات، في اقتحام قاعدة التنف العسكرية، وباءت كل محاولاته بالفشل”.

ويضيف أنه بعد أن تعذر على التنظيم اقتحام قاعدة التنف، اتجه لتنفيذ عمليات انتقامية في مخيّم الركبان، موضحاً أنه في الهجوم الأخير تسلل عبر رجال مدنيين ادعوا أنهم من سكّان المخيّم، وقاموا بعمليات تفجير داخله حصدت أرواح عدد من الأشخاص.

وأوضح جراح أن “البادية السورية واسعة جداً ومفتوحة، لذلك فهي بحاجة إلى آلاف العسكريين لتغطيتها، ومنع الهجمات، وهو أمر مستحيل”.

وأشار إلى أن التنظيم هاجم التنف عدّة مرّات، وتم قتل عناصره على أبواب المعسكر، مبيّناً أنه في الهجوم الأخير، قام التنظيم بزج 60 من مقاتليه نحو القاعدة، وقد قُتل منهم 50 شخصاً فيما هرب الـ 10 الآخرين مستغلّين انشغال “جيش مغاوير الثورة” بالمعركة.

وتابع: “جنودنا لهم أهالي في المخيم ويذهبون بإجازات أو لجلب بعض الحاجات واللوازم من سوق الركبان”، مردفاً أن التنظيم استغل هذا الأمر وبدء بصنع مفخّخات ومهاجمة عناصر الجيش الحر في المخيّم.

ويرى محلّلون أن التنظيم يحاول أيضاً خلخلة منطقة الركبان، وخصوصاً في مخيم اللاجئين، بعد أن تم تضييق الحصار عليه من قبل فصائل الجيش الحر بالبادية السورية، ما دفعه إلى محاولة إيقاف تقدم تلك الفصائل، وإشغالها من خلال استهداف المدنيين بالمخيم.

 

وضع مأساوي

رئيس مجلس عشائر مدينة تدمر والبادية السورية محمد خضر المخيا، أكد أن المدنيين يعيشون وضعاً مأساوياً في المخيم، وقال لـ صدى الشام: “إن مجلس العشائر أسّس في المخيّم إدارة مدنيّة كاملة، تتألف من دار قضاء تضم ثلاثة مجازين، ومديرية للخدمات، ومديرية للرقابة والتفتيش، وشرطة تتألف من أكثر من 150 عنصراً، ومكتب صحي ومكتب إغاثي ومكتب تعليمي”، وأشار إلى أنه تمّ أيضاً توقيع ميثاق بين الفصائل الموجودة في المنطقة للتعاون الأمني، ووقف إطلاق النار، وعدم اعتقال المدنيين، وقد وقّع على الميثاق 4 فصائل من أصل 5، إذ لم يوقّع جيش أحرار العشائر.

وأضاف أن هناك مدنيين لم يحصلوا على المساعدات منذ زمنٍ طويل، بسبب وجود ما أسماه “مافيا” في المخيّم تهيمن على توزيع المساعدات، وتمنع الناس من الحصول عليها، لكنه رفض أن يذكر اسم هذه الجهة خوفاً على سلامته، لافتاً إلى أنه يوجد في المخيّم من يجمع المال ويتاجر بالأهالي الموجودين داخله.

ومن ناحية المياه ذكر المخيا، أن أقرب مصدر مياه يبعد عن المخيم 230 كيلو متراً، ما يجعل المدنيين في وضعٍ سيء يزيد من معاناتهم، لافتاً إلى أن السلطات الأردنية تحاول جاهدةً تأمين المياه.

وبالنسبة للجانب الصحي يوجد في المخيّم مركز طبي واحد بإمكانات محدودة، مخصّص لـ 80 ألف نازحٍ في المخيّم، ويعالج بشكلٍ يومي ما بين 40 – 50 حالة، وما يُفاقم الأمر، هو أن السلطات الأردنية تمنع دخول أهالي المخيّم إلى أراضيها لتلقّي العلاج ما أدى لسقوط ضحايا ولا سيما من الأطفال.

 

” جيش أحرار العشائر”

وثّقَ مجلس عشائر تدمر والبادية السورية، عشرات حالات الوفاة بين الأطفال في مخيم الركبان؛ بسبب غياب العناية الصحية، حيث وصل عدد الأطفال المتوفين نتيجة غياب الرعاية الصحية إلى 28 منذ مطلع عام 2017 الحالي، وأرجعت مصادر من داخل المخيّم السبب إلى سيطرة “جيش أحرار العشائر” على المساعدات والتحكّم في تدفّقها على أساس غير عادل.

السلطات الأردنية حاولت اتخاذ بعض الإجراءات الوقائية، فقامت بتأهيل فصيل “جيش أحرار العشائر” وتدريبه بشكلٍ مكثّف على التصدّي للتنظيم، ليحل هذا الجيش بدلاً من “الهجّانة” السوريين الذين كانوا موجودين عندما كان النظام يسيطر على المنطقة، لكن “جيش أحرار العشائر” قام بانتهاكات واسعة بحق المدنيين، وفشل في تنفيذ المهمّة الموكلة له، وراح المقيمون داخل المخيم يشتكون من معاملته السيئة.

وعلى الرغم من تشكيل “مجلس أحرار العشائر” الذي كانت وظيفته الرئيسة هي تسلّم المساعدات وتوزيعها بشكلٍ عادل على الأهالي والإدارة المدنية للمخيّم، إلاّ أن ذلك لم يحدث، فقد أصبح “جيش أحرار العشائر” هو الجهة التي تستلم هذه المساعدات وتقوم بتوزيعها بشكلٍ غير عادل.

ويبدو وضع حد لممارسات هذا الجيش أمراً مستحيلاً في الوقت الحالي، سواء من الأهالي أو حتى من الفصائل الأخرى، بسبب الدعم الكبير الذي يتلقّاه من الأردن، للإشراف على المخيّم وإدارته.

وازدادت انتهاكات هذا الجيش إذ قام مؤخراً بقتل طفلين وإصابة ثمانية أشخاص آخرين، عقب إطلاق عناصره النار على المدنيين بشكلٍ عشوائي داخل المخيّم، وفقاً لما أفادت به مصادر من داخل المخيّم لـ صدى الشام، وأكّدت أنها ليست الحادثة الأولى من نوعها.

وفي هذا السياق يصف محمد مصطفى جراح الناطق الرسمي لـ “جيش مغاوير الثورة” جيشَ أحرار العشائر بالذئب الذي تأتمنه المنظمات الدولية وتمنحه المساعدات لتوزيعها على من هم داخل المخيّم، ليقوم بسرقة ما يحلو له من منها دون رقيب أو حسيب، وفق تعبير جراح.

وأضاف أن الأردن ترفض الاعتراف بالمجلس المدني الذي تم تشكيله، وتصرّ على التعامل مع جيش أحرار العشائر الذي قامت بتدريبه وتأهيله وحسب، لافتاً إلى أن من يعارض قرار الأردن يتم قطع الدعم عنه بشكلٍ كامل.



صدى الشام