هل تُوحّد الموسيقى السوريين


ميخائيل سعد

ما إن دخلتُ القاعة المخصصة للحفل، حتى هيمنت عليّ مهابتها، وتذكرت أن من الواجب وضع الهاتف في حالة صمت؛ فنحن في قاعةٍ يتصدر فيها بيانو أسود غير قابل للنقل أو الحركة، سيكون لصوته، بعد قليل، سيادة على كل ما عداه من أصوات، لذلك يجب أن تكون كل الأصوات الأخرى، سواء الصادرة عن بشر أو آلات أخرى، في حالة صمت.

ما كان صاخبًا في حضوره، غير البيانو الأسود الضخم، منذ اللحظة الأولى لدخولي القاعة، هو الهوية السورية التي تلبس الناس معظمهم، رغمًا عنهم؛ فسمرة الوجوه، والعيون العسلية، والنظرات المكسورة، والهمسات التي تبوح، بطريقة نطقها، باسم المدينة التي قدموا منها، كلها تقول إننا سوريون في قاعة مونتريالية، حتى بعض تقاطيع الوجوه ولون البشرة الأشقر لم تستطع أن تخفي هويات تحاول الاختباء، فكان النزق الهارب من العينين ومن حركة اليدين يفضح الهوية الممزقة والهاربة إلى انتماءات جديدة، وكانت حركة العيون القلقة التي “تُفلّي” المكان تكاد تقول: انتبهوا “إن للجدران آذانًا”.

لقد جاء الجميع، على الرغم من دوي المدافع البعيد، لسماع موسيقى كلاسيكية بعزف سوري! كانت السيدة اللاذقانية، أستاذة البيانو “قمر الطويل” وزوجها أستاذ البيانو “محمد غوري” قد دعَواني لحضور حفلتهما الموسيقية الأولى في مونتريال، ليس بصفتي صحافيًا، ولا كناقدٍ موسيقي، فأنا عاطل عن المواهب في هذا المجال، وإنما بتوصية من الصديق جلال الطويل المقيم في إسطنبول، إلى أخته “قمر” التي استقرت في مونتريال، منذ أربع سنوات مع زوجها وأولادها. لبّيت الدعوة مدفوعًا بفضول مَن يبحث عن حالة لجوء سورية ناجحة، متأقلمة ومنتجة، ولمعرفة أسباب النجاح، فقد تكون التجربة محرضًا لآخرين.

التأقلم

قالت قمر: “عندما وصلت إلى مونتريال، أردت أن أصرخ من الألم، فلم أستطع. كنت بحاجة إلى أداة تعبير أكثر قدرة من الصراخ للتعبير عن آلامي الشخصية، وآلام البلد الذي تركته يتخبط بدمه، وتركت فيه أهلي وأحبابي، خطرت ببالي الموسيقى، ولكن ما كنت أريده هو شيء آخر يفهمه الناس مباشرة، فعرفت أن لا بديل عن اللغة”.

وأضافت: “عندما يصل المهاجر أو اللاجئ يكون وضعه، في بلد الاستقبال، مثل طفل حديث الولادة، يحاول أن يمسك بيديه كل شيء جديد، فيكسره أحيانًا، ويترك انطباعًا سيئًا عند من حوله، لذلك حاولت فورًا، كي أتجنب النظرة السلبية، الالتحاق بدورات تعلم اللغة الفرنسية. استطعت أن أتقدم سريعًا في التعلم، وكنت سعيدة بما لمسته من تشجيع من معلماتي، ومع انتهاء السنة الأولى كنت قد أصبحت قادرة على التعامل مع الحياة اليومية ومفرداتها باللغة الفرنسية، وبدأ حنيني إلى البلد يتراجع إلى مراتب أقل أهمية، مقارنة مع أحلام السنة الأولى”.

يقول أستاذ البيانو محمد غوري: “بالنسبة لي كان التأقلم أسهل؛ فأنا أعرف الفرنسية، وكنت قد عشت في مونتريال، وأحمل الجنسية الكندية، وبالتالي توجهت فورًا إلى الدراسة لنيل شهادة تسمح لي بالعمل؛ وحصلت على إجازة تسمح لي بفتح مكتب خاص للعمل مستشارًا قانونيًا في الهجرة، وأنا الآن بصدد البحث عن مكتب والانتساب إلى النقابة.

اللقاء

كان من الواضح أن المايسترو هو محمد، لذلك عندما سألتهما كيف تعارفا، وهل كان للموسيقى دور في الحب والزواج؟ قال محمد: “نعم”. بينما قمر توسعت في الإجابة، قالت: “كنا ندرس الموسيقى عند المعلمة عينها، السيدة جاكلين إلياس -أمدّ الله في عمرها- وكنا في مستويين مختلفين، فمحمد أكبر مني عمرًا، ثم إنه سافر إلى كندا، وكنت ما أزال أتابع تعلم العزف عندما عاد إلى المدينة وافتتح مدرسة لتعليم البيانو، وقد التقينا مصادفة في الشارع الرئيسي في اللاذقية، وكان يعرف أمي؛ فتقدم لخطبتي. بعد الزواج تفرغنا للعمل في المدرسة التي افتتحها محمد، وبدأت سمعتنا -عازفَين ومعلمَين جادين- تنتشر في المدينة، لذلك حرصنا على استمرار المدرسة مفتوحة أمام طلابنا، وخاصة الذين كانوا معنا منذ عشر سنوات، فنحن لا نزال نعطي، حتى الآن، دروسًا يومية لطلابنا في اللاذقية، عبر السكايب، وكأننا هناك”.

بالإضافة إلى مدرسة اللاذقية، تحول بيت محمد وقمر في مونتريال الى مدرسة للموسيقى. كانت سمعتهما -عازفَين ومعلمَين جادين- قد انتشرت في أوساط السوريين في مونتريال، وأحيانًا كانت السمعة قد سبقتهما إلى كندا، وهذا ما عجل في ارتفاع عدد الطلاب الذين يريدون دروسًا خاصة على البيانو. ولكن كل هذا لم يكن كافيًا لتحقيق دخل مالي مقبول للعائلة، لذلك كان على السيدة قمر الطويل أن تخطو خطوة أخرى في مجال التأقلم، فانتسبت إلـى الأكاديمية الموسيقية لكيبك، ونالت شهادة منها تسمح لها بالتعليم الموسيقي، في بعض المراكز الثقافية للبلديات.

النجاح

قبل نهاية السنة الرابعة للهجرة الإجبارية، كان محمد وقمر قد وضعا قدمًا راسخة في مجتمعهما الجديد، وكانت الصعوبات الحقيقية تواجه قمر أكثر مما تواجه محمد، فعليها إتقان الفرنسية، وعليها أن تتابع اهتمامها بالأولاد، وعليها متابعة التواصل مع مدرسة الموسيقى في اللاذقية، وإعطاء الدروس للطلاب يوميًا، ومع كل تلك الصعوبات فقد استطاعت النجاح. والدليل هو الحفلة الموسيقية الأولى التي أقامتها مع طلابها؛ طلاب المنزل، وطلاب مركز البلدية للهوايات. استطاعت، مع زوجها محمد، بعد ما يقارب ستة أشهر من العمل والتحضيرات، دفعَ نحو عشرين طالبة وطالب إلى المشاركة بالحفلة الموسيقية التي حضرها ما يقارب 150 شخصًا لسماع عزف أولادهم.

بدأت الحفلة بكلمة ترحيب من السيد محمد غوري، رحب فيها بالحضور، ثم تلته السيدة قمر، فألقت بالفرنسية كلمة ترحيب بالجميع، شاكرة الطلاب وأهلهم، والمشرفين على القاعة، متوجهة بشكر خاص لأساتذتها باللغة الفرنسية الذين واللواتي قدموا لها كل مساعدة، وآخرها كان إيجاد قاعة مزودة ببيانو في ثانوية خاصة عن طريق معلمة الفرنسي.

بدأ العزف، وقدم كل طالب مقطوعة قصيرة مختارة من أرشيف كبار الموسيقيين الكلاسيكيين. كما قام السيد محمد بعزف مقطوعة عربية. أما السيدة قمر فقد عزفت قطعة كلاسيكية غربية مميزة، انتزعت في نهايتها التصفيق القوي من الحضور الذي كان من كل أطياف مكونات المجتمع السوري.

كان من نتائج التأقلم السريع مع المجتمع الجديد، أن استطاعت الابنة البكر لمحمد وقمر (15 عامًا) النجاحَ بامتحان القبول لدخول “كونسرفاتوار” مونتريال قبل الحفلة بيوم واحد، ضامنة لنفسها بذلك مستقبلًا جميلًا ومضمونًا.

في النهاية، ليس كل اللاجئين أو المهاجرين السوريين مثل هذه العائلة، فهناك من كان تأقلمه أصعب، وهناك من فشل في التأقلم، ولكن ليس أمام السوريين من خيارات كثيرة، فإما العودة إلى وطن يحرقه المستبد ويقتل من بقي فيه من البشر، أو التأقلم مع المجتمع الجديد، وكل شيء بثمنه، فحاول أيها السوري ألّا يكون ثمن تأقلمك غاليًا.




المصدر