أبو نهد


مصطفى تاج الدين الموسى

عثرتُ على صندوق رسائلهما، وأنا أمارس هوايتي في التنقيب بين الكراكيب على السقيفة.
في غرفتي، قرأتُ رسائل والديّ لبعضهما، أيام خطوبتهما، أثناء قراءة الرسائل صفعتُ بلؤمٍ جبيني عدة مرات.

استفسر أخي خليل، قلتُ له بأسى:

ـــ والدك، قبل أن يكون موظفًا في معمل الغاز كان شاعرًا..

ـــ يا عيب الشؤم!!..

ـــ انظر، هذه رسالته الثالثة إلى أمك، فيها كلام معيب عن النهد، ومجالات استخدامه، وهذه الرسالة الخامسة لأمك، تذكّره فيها كيف تبادلا القبلات خلسة، خلف باب المطبخ..

ـــ يا للعار.. يجب أن نذبحهما!!..

ـــ أو يدفعان لنا..

أشعلتُ سيجارة، همستُ بثقة وأنا أجمع الرسائل إلى بعضها:

ـــ سوف أحسن نوعية سجائري، بشرفي لأخرب بيتك يا أبي، طبعًا باستثناء غرفتي.

على الغداء قلت لهما:

ـــ أين كان زعيم البلاد آنذاك؟ ألم ينتبه إلى أن هنالك خونة يحشدون طاقاتهم لزجها بأمور معيبة خلف باب المطبخ؟! عوضًا عن زجها بمعركتنا المصيرية مع الاستعمار؟!

ارتبكتْ أمي كثيرًا وأسرعتْ إلى غرفتها، صرختُ بأبي:

ـــ سوف أكتب بك تقريرًا إلى المخابرات، أعطني نقودًا..

عندما خرج من غرفة الضيوف ليجلب الشاي أوقفته:

ـــ تشرح لأصدقائك العدالة الاجتماعية؟! أينقصنا مشاكل مع الحكومة؟! لماذا لا تشرح لهم عن النهد؟! عندك دراسة مطولة وعميقة بهذا الخصوص؟! أعطني نقودًا..

تركتُ الحمراء القصيرة، صرتُ أدخن “مالبورو”.

في تلك السهرة المتأخرة، انتظرني حتى رجوعي منزعجًا، إلى متى سوف يظل يتدخل بخصوصياتي أبو نهد؟

ـــ أين كنت؟

ـــ كنتُ في الكباريه، قرأتُ لهم رسالتك حول النهد، يا إلهي يا أبي، كم كنتُ فخورًا بك أمام سكان الكباريه.. أعطني نقودًا.

لطالما تشاجرا في حياتهما، لكن تلك المشاجرة كانت الأقسى كلاميًا، سمعنا أصواتهما فأسرعنا أنا وأخي إلى البيت، كان كلّ واحد منهما يجمع ثيابه ينوي المغادرة وتطليق الآخر، حاولتُ تهدئتهما.. فشلت.

جلبتُ صندوق الرسائل، قذفته بوجهيهما لتتناثر رسائلهما القديمة بين أرجلهما، ذهبتُ إلى غرفتي لأجمع ثيابي ناويًا مغادرة بيتهما.

معًا، دخلا بلطف غرفتي، اعتذرا.. بكت أمي بصمت، ناولني أبي صندوق الرسائل، قال بصوت مرتجف:

ـــ خليه معك، صرنا أفضل بتهديداتك، أرجعتنا إلى تلك الأيام الجميلة.

أخذتُ الصندوق وأنا أصرخ بفرح:

ـــ أبو نهد.. أعطني نقودًا..

أبي؛ عندما يتسلل لون الخجل إلى وجهه أمامي، يصير لثانية ابني.

أمي؛ عندما يتسلل لون الخجل إلى وجهها أمامي، تصير لثانية ابنتي.

بعد أشهر مات أبي بالسرطان، بعد أسابيع اشتاقتْ أمي له فلحقته، ثمّ جاءتْ الحرب، احتملها أخي بضع سنوات، ثمّ هرب مع آخرين إلى أوروبا، قال لي العجوز أبو يحيى: غرقوا في البحر..
لا أزال أنتظر مكالمة هاتفية منه.

ليالٍ سوداء، كلها قصف.. خوف على خوف، خرابٌ داكن لا نهاية له، قلتُ: لنلهوَ قليلًا، نتسلى ريثما تنتهي الحرب.

أعطيتُ سعاد المجنونة رسائل أمي، واتفقتُ معها أن نتبادل كلّ صباحٍ هذه الرسائل وكأنها لنا، ونعيش دهشتها. دهشة مفترضة.. بدت لي قاربًا يبحر بنا إلى الخلاص.

مرتْ رسالتان، ليلة البارحة كان القصف أعنف بكثير، في الصباح خرجتُ لأجلس على الرصيف منتظرًا سعاد، في جيب قميصي الرسالة الثالثة، ذات النهد.

كسينما موحشة، كان الدخان يتصاعد مثل أرواح كئيبة من أمكنة مختلفة، تأخرتْ سعاد، تأخرتْ كثيرًا هذه المجنونة، أشعلتُ سيجارة.. تراءى أمامي طيف والدي من بين الأنقاض، ابتسم فابتسمتُ له بخبث، أخرجتُ له طرف الرسالة من قميصي، غمزته:

ـــ سوف أعطيها لـ سعاد، لا تقلق، لن أخبرها أنها لك، اطمئن.. بشرط، أرجوك.. أعطني فرحًا.

الريحانية:25/8/2016




المصدر