إدلب تحديات الراهن والمستقبل


حسن النيفي

لعلّ أي مقاربة للتموضعات العسكرية والسياسية الراهنة، على الجغرافية السورية، لا تبدو سليمة إلّا إذا انتظمت في مقاربة محيطة بالمشهد السوري العام، وقد يبدو -في هذا السياق-  من غير المفيد اجترار الكلام على مجمل الأسباب التي أدّت إلى تداعيات الواقع الميداني والسياسي؛ لأن قسمًا كبيرًا منها لم يعد خافيًا على الكثيرين، الأمر الذي يدفعنا إلى التعاطي مع الوقائع الشاخصة أمامنا، على الرغم من قسوتها وإيلامها، إيمانًا بأن مواجهة المصاعب والمشكلات -مهما كانت قاسية- قد تكون أجدى من الانزواء خلفها.

1

ثمة شطران من عمر الكفاح المسلح للثورة السورية، يبدأ الشطر الأول من أواخر صيف 2011 وينتهي بحلول شهر آب/ أغسطس 2013، وشهدت هذه المرحلة تسيّدًا شبه كامل للجيش الحر غير المؤدلج نسبيًا، على مناطق ومساحات شاسعة من الأرض السورية، وذلك بموازاة وجود حراك مدني ثوري، استطاع أن يُبقي على بعض الجسور مع الحراك العسكري؛ مما ساعد على إنشاء مجالس محلية استطاعت -على الرغم من إمكاناتها المتواضعة- إدارةَ المناطق والبلدات المحررة، وتقديم بعض الخدمات الأساسية للمواطنين، إضافةً إلى وجود خطاب إعلامي -على الرغم من افتقاره إلى المهنية- مستمدّ من القيم الناظمة للثورة. ربما تكون هذه المرحلة هي الأكثر توهّجًا من عمر ثورة السوريين، وقد انعكس هذا التوهّج -سياسيًا وإعلاميًا- على الموقفين الإقليمي والدولي، إذْ كان المشهد السوري آنذاك أكثر سطوعًا ونقاءً، في أنظار المجتمع الدولي الذي بدأ يستوعب ويتفهّم أن ثمة شعبًا سوريًا انتفض في وجه نظام شمولي دموي، لا يدّخر أي وسيلة إجرامية لإخماد صوت خصومه، وبدا واضحًا -آنذاك- أن الإعلام الدولي كان أكثر تركيزًا على العنف الذي يمارسه نظام الأسد تجاه المواطنين المدنيين. ولعل قرار جنيف 1 الصادر في 30 حزيران/ يونيو 2012، هو من إفرازات تلك المرحلة، علمًا أن القرار المشار إليه -والذي تطالب قوى الثورة السورية الآن بقوة بضرورة تطبيقه والالتزام به- كان المجلس الوطني السوري قد رفضه آنذاك.

بدأت هذه المرحلة بالانحسار منذ أواخر صيف 2013، وذلك بفعل عدّة عوامل، لعلّ أبرزها:

1 – إبرام صفقة تجريد نظام الأسد من السلاح الكيمياوي بين روسيا وإدارة أوباما، الأمر الذي جعل الإدارة الأميركية تعدّ ذلك مكسبًا سياسيًا ومنجزًا بديلًا عن التدخل العسكري الأميركي المُفترض في المشهد السوري آنذاك. ومما لا شك فيه أن انكفاء الموقف الأميركي واعتبار القضية السورية ليست من أولويات الإدارة الأميركية آنذاك قد ترك تداعياته على الموقف الأوروبي والإقليمي أيضًا؛ الأمر الذي أتاح المجال للاستفراد الروسي بالملف السوري دون منافس.

2 – ظهور القوى والجماعات الإسلامية المتطرفة تحت شعارات أيديولوجية سافرة، لا تحتمل مزيدًا من التأويل، وتوغّل هذه الجماعات في الأرض السورية، مستهدفةً فصائل الجيش الحر والحراك المدني الثوري في آن معًا. ومع سيطرة قوى التطرف على مساحات واسعة من المناطق المحررة، بات المشهد السوري أقلّ مناعةً أمام التدخل الإقليمي والدولي، إذْ لم تعد المواجهة محصورةً بين الشعب السوري ونظام الأسد فحسب، بل بين أطراف إقليمية ودولية تتصارع مصالحها على الأرض السورية، كما غاب مصطلح (الثورة السورية) عن الإعلام العالمي، ليحلّ محله مصطلح (الحرب الأهلية).

2

أعاد تحرير مدينة إدلب، في آذار/ مارس 2015 شيئًا من الانتعاش الثوري إلى نفوس كثير من السوريين، إذْ يجسّد هذا الحدث هزيمة عسكرية لقوات الأسد وحلفائها، ويعزز في نفوس السوريين مزيدًا من الثقة بجدوى مقاومتهم وصمودهم أمام آلة الحرب الأسدية. إلّا أن نشوة التحرير كانت تخفي في داخلها مزيدًا من التوجس والتساؤلات التي تتمحور حول طبيعة القوى العسكرية التي تمكنت من طرد قوات النظام من المدينة، والحلول مكانها، وأعني بذلك (جيش الفتح) ذا التوجه الإسلامي، إذ لم يتأخر كثيرًا في الإفصاح عن فرض منهجه ومنظومته الأيديولوجية على إدارة المدينة. وواقع الحال أن القوى التي حررت مدينة إدلب لا تختلف عن سائر القوى الإسلامية التي تسيطر على بلدات ومدن سورية أخرى، فهي من دون شك، تقاتل ببسالة وتبدي قدرات قتالية عالية، ولكن ليس للقضاء على نمط شمولي استبدادي من الحكم، بل لممارسة نوع مماثل من الاستبداد والإكراه، ربما لا يختلف كثيرًا من حيث المنهج عن النمط الأول.

ثمة مدينتان تحررتا من سلطات الأسد بالكامل، مدينة الرقة في آذار/ مارس 2013، واستولى عليها (داعش) وجعل منها إمارة إسلامية، ومدينة إدلب التي تسيطر عليها (جبهة النصرة)، وكلتا المدينتين تخضع لمنظومة سلطوية بعيدة بل مباينة لقيم الديمقراطية والمواطنة وحرية الاعتقاد وحق الاختلاف في الرأي.

3

تزامنت هيمنة القوى الإسلامية المتطرفة مع انحسار كبير للوجه الناصع للثورة؛ الأمر الذي ساهم بقوّة في إيجاد مصطلح “محاربة الإرهاب” بديلًا عن مصطلح “محاربة الاستبداد”، إذْ استطاعت حكومة بوتين، مستغلة استفرادها بالملف السوري، استثمار هذه المسألة من خلال عدوانها الجوي منذ أيلول/ سبتمبر 2015 على البدء باستراتيجية جديدة تتجسّد في مسارين:

– الهدن والمصالحات المحلية المزعومة التي تنتهي بالتهجير القسري واستئصال البؤر الثورية، تمهيدًا للتغيير الديموغرافي (القصير، حمص القديمة، حي الوعر، وادي بردى، داريا، مضايا، برزة، حلب الشرقية.. إلخ).

– العمل على تحييد كل القرارات الصادرة عن المرجعيات الدولية ذات الصلة بالقضية السورية، واستبدالها بسلسلة لقاءات أستانا التي انتهت بتكريس وشرعنة وجود الميليشيات الإيرانية ومشتقاتها من جهة، وكذلك انتهت بجعل نظام الأسد جزءًا من الحل، في حين أنه أصل المشكلة من جهة أخرى.

4

إن طبيعة التواجد العسكري الأجنبي على الأرض السورية في الوقت الراهن، موازاةً مع عدم وجود أي اتفاق بين أطراف الصراع، يجعل من الأرض السورية مناطق نفوذ مؤقتة لقوى الأمر الواقع. وفي ظل غياب موقف أميركي فاعل في الشأن السوري، ستبقى جميع الأطراف الإقليمية والدولية منهمكة بإدارة الصراع في سورية، وليس في إيجاد حل يُنهي ذلك الصراع.




المصدر