شبح الفوتوغراف يُلاحِق سورية


جوان تتر

(المقال الحائز على المرتبة السادسة بـ “جائزة حسين العودات للصحافة العربية” لعام 2017).

محاصرَةً بين أُطر مغايرة عمّا كانَ سائدًا، أتت -لاحقًا- مع اندلاع الثورة السورية، تهاجر الثقافة، لتتكوّن معها أكثر الأُطرُ توغّلًا في الإيلامً، فالسوريون قُبيل اندلاع الثورَة لم تكن لديهم ثقافة الصورة الفوتوغرافية إلّا في النزر اليسير، أو لنقل ربمّا كان حملُ آلة تصوير؛ حتى تلك المخصًّصة لتوثيق أعياد الميلاد المنزليّة، تستوجب الحصول على موافقاتٍ أمنية عدّة، أو تُجرى خلسةً في أفضل الأحوال، ذلك الأمر ينسحب على كلّ المقوّمات الأخرى التي كانت حكرًا على السلطة ومؤسساتها فحسب، وبموجب تراخيص تؤخّذ من أقبيةٍ رطبة، ثلّة من المثقفين التابعين للسلطة -آنذاك- كانوا حاملين للهمّ الثقافي!، الهمّ من وجهة نظرهم وحسب، والطريف في هذا الأمر أنّ الشريحة العظمى من تلك الثلّة تراجعت عن موقفها الصامت، بعد أن رأت المشهد البصري الذي كان ممنوعًا في وقتٍ مضى، مشهد الموت والقتل والدمار اليوميّ الذي باتَ علنيًا، وانكشفت بعد ذلك الأمور الخفيَّة رويدًا رويدًا، وكأنّ الصور كانت ملتقطة سلفًا، وعلى أهبّة الاستعداد لتثب إلى وسائل التواصل الاجتماعي والوسائل الإعلامية حديثة النشأة، حالَ توفّر الفرصة التي توفّرت بالفعل، كل ذلك خلق فجوة لا يمكن تجاوزها، مسألة الصورة التي باتت الآن فنًّا سوريًا قائمًا بذاته، لا يختلف تنوّعًا عن الكتابة أو التشكيل أو السينما، ولكن باختلافات في الزوايا ووجهات النظر  والتأويلات المُمكنة.، فنَّا يعكس مدى ما كان عليه استعدادنا نحن -السوريين- من أنّ بعضنا يفضح بعضًا، ونعبث بالجراح.

الموتُ فوتوغرافيًا

لا شكّ في أنّ موضوع الصورة من الناحية الفلسفيّة والدلاليَّة العميقة، بوصفها حالة كُتبت عنها مئات الأبحاث والنظريات، لكن الحالة السورية لم تجد لنفسها المجال؛ حتّى اللحظة لتكون حاضرةً، بوصفها نظريَّة، صورة لطفل غريق جلبت تعاطفًا دوليًّا مع الحالة السورية، في وقت كان التعاطف فيه متوافرًا،  ولكنه لا يجد التمثيل والتجسيد الحقيقيَين، على الطرف الآخر الفوتوغراف، بوصفها تجارة بعيدة عن الحالة الإنسانيَّة، لاقت رواجًا -بدورها- في النشرات الإخباريَّة لكبرى وسائل الإعلام العربية والأوروبيَّة، ما يمكن أن يطلق عليه عبارة (السبق الصحفي)، الفنّ الأخير الذي اتّكأ على الموت السوري مرارًا؛ كي يحقّق نسبًا متابعة، أو حصد إحصاءات مرتفعة؛ لتتباهى بها المؤسسة الناشرة بعدئذ. الأمر في غاية القسوة أن تغدو لصورة دير الزور المدمّرة معجبين! وليس الأمر متوقفًا عند هذا الحدّ، بل أن يتجاوزه ليصل إلى مرحلة أن يندهشَ الآخر:” هل كانت هناك مناطق جميلة كهذه في سورية، ولمَ يدمّرها الأسد كهذه؟!”، سيقول أحدهم إنّ نقل صورة الخراب السوري إلى الآخر الغربي المتواطئ في هذا الدمار شكلٌ من أشكال استنهاض الهمم والإنسانية الأوروبية؛ بغرض الضغط على حكوماتها ليتوقّف هذا الخراب عند حدّه، لكن ثمّة رد آخر على هذه الإشكاليَّة، يتضمّن سؤالًا مشابهًا: لِمَ لم نرَ صورًا في غاية الجمال لخراب تأتّى من تفجير استهدف مكانًا أوروبيًا؟ أَو ليست أوروبا مراد كلِّ لاجئٍ سوري وغير سوريّ؟ ربما لأنّنا منهمكون بالألم، أو ربمّا لأن العدسة كانت غير نظيفة حين نقلت صورة الخراب الأوروبي الذي خلّفه التفجير، كما هي حال نقل الخراب السوري بتلك الأناقة، والحال هذه، الموتُ السوريّ منقولًا بعدسات صحافيين و هواة، أو حتّى محترفين، باتَ يشكّل الهمّ الأوسع، صور تباع وتشترى لمجرّد أنّها توثّق موكبًا لنازحين سورييَّن، وكأن البشر السوريين من كوكبٍ آخر!، ثقافة تشكّلت بمساهمة من التيارات العسكرية والسياسية المتنازعة أخيرًا، إنّما بأيدٍ خفيَّة غامضة، وبشكلٍ مسنود إلى ضرورة دوام الخراب في سورية؛ ليتطوّر الفن الفوتوغرافي، ويجري استعماله، أو لنقل “استغلاله” في إنتاج فنٍّ ما، طبعًا المغالاة في المعضلة أمرٌ سيئ، ولكن المعطيات تُثبت الأمر بكل يسر وبساطة.

– الأشلاء البشريَّة صورًا

أن تكون في الداخل السوري وتعايش تفجيرًا ضخمًا، وألا تموت كغيركَ ممن ذهبوا، أمرٌ  بالغ السوء؛ لأنّك ستكونُ على استعداد تامّ للانتحار، أو على الأقلّ ستكون لديك الرغبة في الانعزال التامّ، فضلًا عن الحزن والألم، لسانُ حال كثيرين، وعلى التضادّ يرى آخرون أنّ معايشة انفجار ضخم، ناجيًا بحياتك، أمرٌ  محفِّز على تقديم شيء ما لهذا البلد؛ لأجل الخلاص، مهما كان الشيء المقدّم صغيرًا، لكن ما يُقدّم الآن صور لأشلاء بشريَّة متطايرة، يدٌ قبل ثوانٍ كانت تُصافحُ يدًا أخرى، وطارتا في الهواء!، عينٌ كانت ترى الخراب الاقتصاديّ، وألمَ الفقد، باتت لا ترى الآن سوى السّواد، ثمّة خللٌ ما يمكن استبيانه، لِمَ لا تدوّن الحالة؟ في روايةٍ أو مسرحٍ أو أي شيء آخر غير الصورة؟ هل تباهت الحرب العالمية الأولى بصورها على الرغم من قساوة المشاهد آنذاك؟ لو فعلنا نحن -السوريين- كذلك، كنّا الآن أمام أطنانٍ من المفردات التي تجسّد الحالة، بمعزلٍ عن آلَةٍ صمّاء تنسخُ الواقع، وتحوَّل بعدئذ إلى كلامٍ مرافق، يُهمَل مع حدوث تفجيرٍ آخر في منطقة أخرى على امتداد الأرضِ السوريَّة، ومما لا شكّ فيه مطلقًا أنّ مواقع التواصل الاجتماعي (صلةُ الوصل الوحيدة ما بين السوري الذي يظنّ أنّه الناجي بحياته في الخارج، والسوري الضجر من حياته في الداخل) هي ما روّجت لهذا الأمر، أن تتحوّل سورية إلى صور فحسب، من الممكن جدًا أن تلقى الاحتفاء والاهتمام العالميَين، ولكن ستُنسى حتمًا مثلما حدث مع آلاف الصور الوافدة من مناطق الحروب على سطح الكرة الأرضيّة التي لم تهدأ منذ بداية التكوين.

حربُ الصورة

صورةُ الشيء انعكاسٌ لما هو كائن حقيقةً، أو دلالةٌ على ما هو واقعٌ فعلًا، ولا يخلو الأمر من تحويرٍ ما، الألمُ جارفًا معه كل إنسانيَّة؛ لتغدو الصورة آلة تخويفٍ للأعداء، كما تفعل التنظيمات المتطرّفة في حروبها، قَطعُ رؤوس وحرقٌ للبشر يُصوّران ببراعةٍ تقنيَّة غير مسبوقة؛ لتغدو ثقافةً جديدة قائمة على العنف تحت مسمّى ثورة! بإتقانٍ لا مثيل له، الكاميرا صديقة لبعث روح الخوف وتضخيم أشباح القتَلَة، “الحربُ الإعلامية”، أو “الأداة الإعلامية” المستعملة لحيازة نصرٍ  في معاركَ طاحنة باستخدام التصوير، قياسُ الأثر ليس مهمًّا في هذه الحالة، فالعقل البشريّ مهيأ على الدوام لإنتاج الكارثة وتصنيعِ الفَزَع!، جانبان للتصوير: جانبٌ لإنتاج الذكرى وتخليد اللحظات، وجانبٌ لفضح كل ما هو لا إنساني وخارج عن مسار المنطق والعقل، المعادلة صعبة التفسير بوجود أطنانٍ من الصور المتشابكة، حدثٌ وحشيّ موثّق فوتوغرافيًّا في إحدى أصقاع الأرض البعيدة، تتجّه الأنظار على الفور نحو سورية! لتبدأ آلةُ النواح بالعمل أيضًا، رافعةً نسبة الألم سوريًّا إلى ما لا يمكن تحمّله.

صورةُ الحرب

تتوالى الأحداث في سورية، وتتجّه نحو إمكانية الحلول العقيمة!، لا شيء يتغيّر سوى أنّ الصور تزداد؛ لتزداد معها الحيرة والقلق الدوليَّين مما يصل من صورٍ مؤلمة من رقعة جغرافيَّة في هذا العالم تدعى سورية، شيءٌ ما شبيه بجدارٍ آيلٍ للسقوط، لا تستطيعُ حماية نفسكَ من احتمال سقوطه، وفي الآن نفسه، ليس في الإمكان أن تركله بقدمك على سبيل التخلّص من هذا الأرق؛ مخافة سقوطه على جيرانك الأبرياء في الطرف الآخر، وحدها الصورُ الوافدةُ -على اختلاطها- تشكّل سورية جديدة، سورية غير تلك التي كانت، سورية الفوتوغراف!




المصدر