أين كانت سورية في قمم الرياض الثلاث؟


توفيق الحلاق

السوريون العالقون بين الأمل والموت في داخل سورية، تحت خطر الجوع والقصف، وكذلك المشردون في أصقاع الأرض، العالقون بين الأمل في العودة ومحاولة التأقلم مع واقع المهاجر الغائم، كانوا يتابعون مراسم استقبال دونالد ترامب وزوجته وصهره وابنته في الرياض، الرياض التي يُفترض أنها عاصمة العرب والمسلمين. لم تكن مشاهد البذخ تعنيهم فقد ألفوها منذ ثمانين سنة، بل كانوا يستعجلون فقط نتائج الزيارة، في بيانٍ ختامي يحملُ وعدًا بلجم روسيا وإيران ونظام الأسد عن الاستمرار في تعذيب وتجويع وقتل ما تبقى منهم، وهم لم يتوهموا للحظة أن القادة العرب والمسلمين الخمسين الذين انضموا للمشهد سيكون لهم دور في صياغة ذلك البيان.

كان جميع القادة شاخصون إلى وجه ترامب وإلى فمه تحديدًا، ليتعرفوا إلى مكانتهم عنده، بينما كان السوريون ينتظرون منه كلامًا قويًا، يشبه ذلك الذي قاله بعد مجزرة خان شيخون الكيمياوية، والذي أتبعه خلال ساعات بقصف مطار الشعيرات الذي انطلقت منه الطائرة المحملة بقنابل الموت، لكن ذلك المشهد، على غناه بقلادة الذهب وصناديق المال، انفضّ عن بيان منسوخٍ من بيانات جنيف الستة الميتة، ومرةً أخرى اتضح أن مأساة السوريين لا تعني أحدًا سواهم، وأن القمم الثلاث كانت مجرد مقايضة بين حكامٍ يريدون البقاء في الحكم إلى الأبد مقابل دفع الفاتورة التي تطلبها أميركا ماديًا، وإقرارًا بالتبعية السياسية المطلقة.

هكذا بدا الأفق أسودَ أمام السوريين، لا ينفذ من خلاله محض ضوء يُبشّر بخلاص وشيك أو بعيد، فالأوضاع في الدول العربية متردية، وكل زعيم يبحث عن خلاصه، ودول الغرب التي أعلنت عام 2012 تأييدها للثورة في إزاحة الأسد تراخى تأييدها، حتى باتت مشغولة بمحاربة (داعش) ونسيت الأسد، إلا من بعض كلمات شعبوية مضللة تصفه بها من باب رفع العتب، بل إن صحفًا وقنوات فضائية غربية شهيرة تُجري لقاءات منتظمة معه، تفيد سمعته أكثر مما تضرها.

تراخي دعم الغرب للثورة، وخاصة إبان فترة رئاسة أوباما لأميركا، أوباما الذي منح إيران وحزب الله ومن ثم روسيا تصريحًا غير معلن لاحتلال سورية برًا وبحرًا وجوًا، ومساندة الأسد في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، طالت الشيوخ والنساء والأطفال والمشافي والمدارس.

لم تكن أوضاع الثورة في الداخل أحسن حالًا، سواء على مستوى المقاومة العسكرية أو على مستوى الإدارة الذاتية للمجتمع في المناطق “المحررة”، وأما تمثيل الثورة السياسي في الخارج فقد ظلَّ طوال الوقت محكومًا بمحاصصات، تُقررها الدول الداعمة الخليجية والأوروبية؛ ما أدى إلى وصول أشخاصٍ، لا يتمتعون بالكفاءة والنزاهة، إلى عضوية المجلس الوطني، ومن ثمّ إلى الائتلاف الوطني.

في ما يتعلق بنظام الأسد، فقد وصل إلى منطقة الثقب الأسود التي تنتظر ابتلاعه، فهو سقط كممثل لدولة سورية أمام العالم، وسقط في الداخل كمؤسسة تُدير الدولة، وهو حتى لو قضى مع حلفائه على آخر معارض له، واستعاد آخر شبر من قبضة “الجماعات المسلحة”، فإنه لم يعد أكثر من تابعٍ مخصيٍ لولاة أمره الروس والإيرانيين، وأي محاولة منه لاستعادة هيمنته على البلد والشعب ستكون مستحيلة، في ظل الواقع الجديد الذي صنعه بنفسه.

المفكر والمؤرخ الماركسي أريك هوبسباوم قال في كتابه (عصر الثورة): “لا يمكن للأنظمة الشمولية الصمود في وجه الثورة حتى لو هزمتها، وهي لا بدّ ستنتهي وتزول لأنّ نسقها السياسي سيتناقض كليًا مع الظروف الجديدة التي تفرضها الثورات”. وما يؤكد فرضية هوبسباوم أنَّ الثورة السورية، على الرغم من إخفاقاتها الكثيرة، حطمت أسطورة الحزب الواحد والقائد الواحد وحكم العائلة الواحدة إلى الأبد، ولم يعد بمقدور أي رئيس عربي توريث ابنه على الطريقة الملكية، كما أن الثورة أجبرت النظام السوري على إلغاء المادة الثامنة من الدستور التي كانت تنص على أن حزب البعث هو القائد الوحيد للدولة والمجتمع، وتم تعديل الدستور، وسن قانون للأحزاب، وعلى الرغم من أن هذه الإصلاحات كانت محاولات لامتصاص نقمة الشعب الثائر، إلا أن الثورة أجبرت النظام على التنازل عن أهم مرتكزاته التي قام عليها، ثم إن تشكيل أحزاب جديدة، بغض النظر عن موالاة بعضها له، خلق حالًا مستحدثة في الفضاء السياسي السوري كان قد غُيّب في عهد الوحدة السورية المصرية، بين عامي 1958 و1961، ثم عاد فترة الانفصال 1961 – 1963، ليختفي تمامًا منذ عام 1963، وكذلك اضطر النظام لاستبدال صيغة الاستفتاء على مرشح الرئاسة الوحيد إلى صيغة انتخاب أحد مرشحي الرئاسة، على الرغم من كاريكاتيرية المشهد، وكل هذا يعني تزحزح النظام عن مواقعه مُكرهًا واضطراره للخضوع للحراك الثوري الذي يتماهى مع مسار التاريخ إلى الأمام.

لقد انتظر السوريون المعذبون في أرضهم وأولئك التائهون في أرجاء المعمورة من قمم الرياض الثلاث بارقةَ أمل، لقناعتهم بأن مصير سورية لم يعد بيد أصحاب ثورة الحرية أو المعارضة السورية المرتهنة للخارج، أو الفصائل الجهادية المتناحرة والمرتهنة أيضًا لمموليها، ولا حتى بيد نظام الأسد، وأن إمكانية وقف نزيف الدم السوري هي رهن إرادة الولايات المتحدة بالدرجة الأولى، لكن ترامب -كما أوباما من قبل- قال في الأسد أوصافًا ظنَّ معها الشعب السوري المنكوب أنه سيُنهي نظامه غدًا أو بعد غد، لكن لهجته تراخت وخطابه القوي اقتصر على محاربة (داعش) تلك المطية التي يستخدمها النظام وإيران وروسيا والغرب للركوب والتوجه بها إلى أهدافهم بعيدًا عن أمنيات الشعوب وتطلعاتها إلى العدالة والحرية.




المصدر