التغريبة السورية.. ضياع الهوية الوطنية


أنجيل الشاعر

باتت ظاهرة اللجوء السوري تشغل حيزًا كبيرًا من تفكير المهتمين بالوضع الإنساني في العالم، مع العلم بأن اللجوء، بوجهيه الإنساني والسياسي، كان -ولا يزال- ظاهرة عالمية متواترة، على مرّ التاريخ. ومع تعثر نتائج الربيع العربي، وعلى وجه الخصوص في سورية، زادت ظاهرة الهجرة أو اللجوء إلى الدول الأوروبية والعربية بنسب مضاعفة عن ذي قبل؛ مما أدى إلى تغيير في تركيبة المجتمعات المهاجرة والمضيفة، وخلق نوع من الاختلاط بين الشعوب بالمعنى الإيجابي مع بعض المشكلات السلبية بين المهاجرين والمواطنين الأصليين في البلدان المضيفة.

قام الصحفي الألماني فولفجانج باور، والمصور التشيكي ستانيسلاف كروبو، بتصوير حقيقي لمعاناة اللاجئين السوريين في كتابهما (هاربون من الموت) ترجمة جمال خليل صبح، منشورات العربي بالقاهرة عام 2016.

ينتحل “باور” وصديقه شخصيتي إنسانين لاجئين من القوقاز، بمساعدة “عمار” السوري من مدينة حمص، لينقلا ويوثقا ما يكابده اللاجئون بين أمواج البحر وجشع المهربين المتاجرين بالإنسان وإنسانيته.

“الهاربون من الموت” ليس رواية من بنات خيال الكاتب، إنما حقيقة معيشة في كل حرف من حروفها، بين مصر التي كانت آمنة بنظر السوريين المهاجرين، وتركيا الملاذ الأقرب، مرورًا بالبحر المتوسط المجهول وبحر إيجة متلاطم الأمواج.

يصف باور الضغوط التي يتعرض لها اللاجئون في أثناء التفاوض مع المهربين، قبل الإبحار، وكيف أنها تبلغ أشدها في قلب البحر وبين الأمواج الصاخبة، واضطرارهم إلى الرضوخ للابتزازات المتتالية، وكيف ينشب أحيانًا صراع بين المهربين أنفسهم على الركاب، ويحتجزونهم في عرض البحر كرهائن أو بضائع لحين إتمام صفقاتهم المشبوهة على البر.

يرصد الكاتب طريقة الهجرة، وحقيقة العالم الخارج على القانون، والخارج من الإنسانية، بطريقة روائية ممزوجة بتقرير صحفي ومشاهد تصويرية، تعبّر عن واقع مرير تعرضت له الإنسانية.

عصر الرقيق لم يغب كثيرًا عمّا وصفه الكاتب في هذا العصر الموسوم بالحداثة والثورات العلمية والتكنولوجية، وحركات التحرر ومنظمات حقوق الإنسان، والحافل بالحروب والنزاعات والأحقاد والضغائن. العصر الذي يتحدث عنه “باور” لا يمت بصلة للقرن الواحد والعشرين، ولا يمت بصلة للقيم الإنسانية بل هو عصر الاتِّجار بالبشر، والاستثمار في الموت لتكديس الثروات وإشباع الغرائز وتنمية العدم.

هذا العصر لا يشبه إلا عصر هولاكو، وما سبقه وما تلاه من فتوحات وغزوات، همجية من البشر على البشر أنفسهم، فما من خيار أمام الإنسان السوري، وكل إنسان يتعرض لضغوط الموت تحت وطأة الحرب، إلاّ الهروب منه إلى موت آخر، هو الجوع والتشرد والمعاناة والقهر، والضياع والخطف والسجن، والأدهى من ذلك كله، هو التحمل والصبر على كل تلك المعاناة في سبيل حياة إنسانية لائقة، أو استعادة ذوات مهدورة وهويات ضائعة.

قد يطول الحديث عن الأسباب والدوافع التي أدت بالإنسان المقهور -حسب مصطفى حجازي- إلى اللجوء إلى غير مكانه الأصليّ، وهي أسباب متعددة، أهمها تعصب الأنظمة الديكتاتورية المولدة للعنف الرمزي أولًا، كالتهميش المتعمد للأفراد والجماعات؛ مما تسبب في تفاقم وجود الهويات الحصرية، الدينية والمذهبية والإثنية الحزبية العقائدية والجهوية، هي هويات ضيقة ومغلقة، متنازعة ومتنافرة، تؤدي إلى تفكيك الروابط بين أفراد المجتمع الذي يفترض أنه مبني على الثقة والتعاون والمحبة وعدم التمييز وقبول الآخر، وتمنع الانفتاح على الهوية الإنسانية التي هي المعيار الأساس للهوية الوطنية، وتعمق الشعور بالاغتراب، وعدم الثقة بالآخر، من ثمّ يتولد العنف الفعلي كالحرب الدائرة في سورية، منذ أكثر من ست سنوات، وفي غير مكان أيضًا.

اللحظة الفارقة، في المأساة الإنسانية وذروتها، هي ضياع الهوية وضياع الذات، يقول “باور”:

لقد ترك الركاب (اللاجئين) بطاقتهم الشخصية وجوازات سفرهم عند أصدقائهم وأقاربهم في القاهرة، ذلك بأنه لا يجب عليهم التصريح بأسمائهم الحقيقية في إيطاليا (….) ومن كان يحمل أوراقًا ثبوتية فقد تخلص منها في البحر”. هذه الحالة المأسوية، حالة التلاشي، حالة التخبط بين الحياة والموت، هي حالة الضياع وفقدان الهوية.

لو كان الإنسان السوري يتمتع بهويته الوطنية التي تفتح آفاقًا واسعة، وآمالًا كبيرة في نفسه، الهوية التي يجب أن تكون خياره في الانتماء وتحقيق ذاته الحرة والمستقلة في مجتمع هو فضاء من الحرية ودولة عادلة لجميع المواطنات والمواطنين، لما آلت به الأمور إلى هذا الحد من الشعور باليأس والإحباط لكل آماله وتصوراته، في ظل الاستبداد الممارس على الفرد من قِبل جميع الأطراف المتنازعة على الأرض السورية، تلك التي يدّعي كلّ منها أنه هو المرجعية في تحقيق “هوية وطنية”، تفصّلها كل جماعة على قدها ووفقًا لتصوراتها الذهنية والأيديولوجية، قومية كانت أم دينية ووفقًا لأهدافها السياسية. لذلك تعالى ضجيج الهجرة واللجوء والنزوح.

إن معرفة الهوية تقتضي -بالضرورة- معرفة الذات البشرية الفردية وتقديرها، وبنائها، وتدل الذات البشرية على مجموعة خصائص طبيعية فيزيولوجيا، وخصائص نفسية، مكتسبة تفرضها الظروف المحيطة بالفرد، إما أن تجعل منه فردًا فاعلًا ومتفاعلًا، أو تطمس هويته وتلغي وجوده، وهذا ما حصل مع السوريين جميعًا بوجه عام، ومع اللاجئين بوجه خاص، فمن تعرض للضرب والسلب والاستلاب، ومَن اضطرته ظروف الهجرة لتناول الطعام الفاسد، هو بالضرورة فاقد للهوية الوطنية.

هذه الخصائص هي التي تعبّر عن جوهر الهوية وماهيتها، فالذات الفردية الحرة والمستقلة، والمعترف بها من قبل الدولة، قادرة على تأسيس مجتمع ديمقراطي حر ومستقل، وروابط متماسكة ومتكاملة، كفيلة بتحقيق العدالة والمساواة، فالعلاقة بين الذات والهوية علاقة تبادلية، تتحقق كل منهما بوجود الأخرى.

الفكر الحر يعبّر عن ذات حرة ووجود مستقل: “أنا أفكر إذًا أنا موجود” تدلنا مقولة “ديكارت” هذه على ارتباط الذات بالوجود، ويمكن أن نستخلص منها أهمية تطابق الهوية والذات.

إذًا، ظاهرة اللجوء والتغريبة السورية هي نتيجة للتعصب السلطوي الأيديولوجي الذي يولّد العنف والتطرف والإرهاب، والتي سبقت الحرب بسنوات طويلة، من ثم ولدت الهويات المقاتلة، حسب تعبير فتحي المسكيني. وهذا ما لاحظه الكاتب الصحفي “باور” إذ كتب: “شوارع القاهرة تمتلئ بالمظاهرات الدامية. يسقط اليمن في الفوضى، والعراق أيضًا. تتفتّت ليبيا إلى مناطق، تتحارب فيها الميليشيات بعضها ضد بعض. ولكن ليس هناك بلدٌ لا يعرف الهدوء، كما هي سورية الآن. لم يشهد العالم منذ حرب فيتنام وحرب الشيشان دمارًا مماثلًا كهذا”.

ثم ينهي روايته التسجيلية، التوثيقية، الواقعية المؤلمة إلى حد الاختناق، بمناشدة العالم وانتقاده لإجبار اللاجئين على تحمل كل تلك المعاناة في الهجرة بطرق غير شرعية، وذلك بسبب إجماع الدول الأوروبية/ الاتحاد الأوروبي، على إقفال الحدود بوجه اللاجئين السوريين، يقول:”… إلى متى سنقوم بخيانة أنفسنا والضحك عليها؟ هذه الحروب المشتعلة في الشرق الأوسط، يجب أن تغيرنا وتطال منا، نحن الأوروبيون أيضًا. إننا نقوم بعمل سوف يجلب لنا خرابًا بشكل بطيء وبخطى واثقة قد لا نشعر بها. من خلال العمل على حماية مجتمعاتنا بهذه الطريقة، نحن نقوم بتدمير أنفسنا أيضًا. يجب علينا ألّا نسمح بذلك أبدًا…. لا تجبروا النساء والأطفال والرجال على الاحتماء بقوارب اللجوء والموت. افتحوا الحدود الآن، وليكن في قلوبكم رحمة وشفقة”.




المصدر