on
حول مناهج التعليم في سورية
هيفاء بيطار
أتابع مناهج التعليم الرديئة جدًا في سورية، وللأسف لم تتغير، منذ أكثر من نصف قرن، بل ازدادت تخلفًا وإرباكًا للطالب، وخاصة بعد اتخاذ وزارة التعليم العالي قرارًا مثل تعريب الطب، وأنا من ناحية المبدأ لست على الإطلاق ضد مبدأ تعريب العلوم، وخاصة الطب، لكن شرط أن يكون لهذا التعريب فائدة أو معنى. كنت طالبة في كلية الطب، وكنت وآلاف الطلاب ضحايا تعريب الطب في بداية الثمانينيات من هذا القرن، وكنا نحفظ مصطلحات عجيبة غريبة، فغضاريف الحنجرة (وهما غضروفان رئيسان) تم تعريبهما بالغضروفين الطرجحاليين! وكان على طلاب الطب أن يحفظا هذا المصطلح، من دون أن تُقدم لهم إجابة مُقنعة وشافية ما معنى: طرجحالي! وممّ اشتقت هذه الكلمة، وهل هي موجودة في القاموس العربي! وضربت هذا مثلًا لأنه بقي محفورًا في ذهني سنوات طويلة، إضافة إلى مصطلحات أخرى كنا نحفظها صمًّا من دون أن نفهم شيئًا كما لو أننا نتعلم اللغة الصينية مثلا. وأذكر منها تعريب (العصب الاشتراكي، ومنطقة الجويئز في زاوية العين) ولم نفهم الغاية من هذا التعريب خاصة أنه لا نعرف من أين اشتقت هذه المصطلحات، وحين دارت السنوات، وشاركت في مؤتمر أدبي، بمناسبة اليوبيل الذهبي لمجلة العربي، أحسست أن فرصتي سنحت كي أسأل أهم المشاركين في علم اللسانيات حول معنى كلمة (غضروف طرجحالي) وما هو أصل هذه الكلمة، في القاموس العربي الطبي، وكان وزير الثقافة التونسي السابق الأستاذ عبد الوهاب المسدي من المشاركين، وحيّره سؤالي وقال لي: ما من معنى لهذه الكلمة (طرجحالي)، واحتد النقاش حول أهمية ترجمة العلوم خاصة الطب، وهل تستطيع دولة لا تشارك في إنجاز الحضارة ترجمة العلوم؟ وعبارة (سيلوليت) أي التشققات الجلدية، بشكل خطوط بيضاء أو زهرية، تُرجمت ترجمة لا تدل على أي معنى أيضًا، والمُخزي أكثر من التعريب أن بعض أساتذة الجامعة، ولا سيّما أستاذ الجراحة العصبية، كان يحذف لنا فصولًا كاملة من الكتاب! لدرجة أننا تساءلنا بصمت: ماذا لو وجدنا أنفسنا، بعد تخرجنا من كلية الطب، أمام حالات مرَضية من القسم المحذوف من المنهاج! وقد يبدو الموضوع أشبه بنكتة، لكن هذه هي الحقيقة القاسية والمُخزية للأسف، وأذكر في إحدى السنوات (بعد التحاقي بكلية الطب بخمس سنوات) تم تعيين أستاذ في علم الحيوان، ليُدرس مادة التشريح لجسم الإنسان، وكانت تنفلت منه كلمات مثل: قانصة وقوصرة ويحاول مُرتبكًا مداراتها. ولم يكن هنالك أي نوع من البحث العلمي بل كانت الدراسة (بخاصة في جامعة تشرين في اللاذقية) أشبه بحرب خفية بين الأساتذة، فهذه نوطة الأستاذ الفلاني (النوطة: محاضرات كتبها أستاذ) وهذه نوطة الأستاذ العلاني، والويل لطالب لا يلتزم نوطة أستاذه حين يسأله سؤالًا، وكانت دراسة مادة التشريح خاصة نوعًا من الُرهاب والتعذيب النفسي وإنهاك العقل، فأبسط عظم علينا أن نحفظ أكثر من 50 نقطة تشريحية لا فائدة لها عمليًا في ممارسة الطب فيما بعد. فعظم الترقوة الذي يصل عظم الكتف بعظم القص، حفظنا فيه 44 نقطة تشريحية، لا معنى مفيدًا إلا لنقطتين أو ثلاثة منها.
وحين التحقت بقسم الدراسات العليا، في طب العيون في مشفى المواساة في دمشق، وهو قسم رائع يستوعب نحو مئة مريض عيني، كان يتوافد إلى مشفى المواساة في دمشق حالات مرضية من سورية كلها، وحين طلبت إلينا الجمعية الطبية الفرنسية العينية -في أحد المؤتمرات الطبيبة- أن نقدم بحثًا عن أسباب العمى في سورية، رفضت إدارة الدراسات العليا العينية تمويل المشروع، وكانت مرحلة دراسة الطب والاختصاص تعتمد في جزء كبير منها على الجهد الشخصي، لأن التدريس الجامعي كان أشبه بالتدريس في مدارس سورية ذات المناهج التي لم تعد مقبولة أبدا. وأعطي بعض الأمثلة:
-في مادة الحساب مثلا، والطالب يعيش ويشهد على الغلاء الفاحش، تُعطى مسائل من نوع: ذهبت أمك إلى السوق، ومعها مئة ليرة واشترت 2 كغ من اللحم وفاكهة، واشترت لك بنطالًا.. إلخ. وسعر كل سلعة كذا فكم بقي معها؟ ما هذه المهزلة، والمئة ليرة لا تشتري ربطة خبز واحدة.
-في مادة التاريخ مثلا، كان ذهن الطالب يُرهق بصفحات معقدة تحكي عن معاهدات عديدة في أثناء الحروب، ثم تُلغى كل تلك المعاهدات، ولا يبقى ألا معاهدة واحدة فقط هي نتيجة الحرب، لماذا إرهاق ذهن الطالب بحفظ معاهدات لا معنى لها سرعان ما ينساها عند خروجه من غرفة الامتحان.
-وفي مادة التربية التي كانت تخص المرحلة الابتدائية، كان الطالب يدرس صفحات عن صفات مخيم البدو، وعن واجبات الزوجة وواجبها الأساس والرئيس أن تبقى مبتسمة كالبلهاء في وجه الزوج الذي يعود من عمله مُرهقا كونه مُعيل الأسرة. ولم تكن هنالك أي إشارة إلى تحقيق المرأة ذاتها وطموحها وأهمية العمل بالنسبة إليها، بل كانت مُقدسة فقط حين تكون أمًّا (الجنة تحت أقدام الأمهات) وليست تحت أقدام المبدعات اللاتي يُتهمن بالاسترجال غالبا، ولا يكُن مرغوبات في سوق الزواج. ولا يمكن أن أنسى كتاب اللغة العربية للصف العاشر الثانوي، إذ كان كله من الشعر الجاهلي وعنه، ومن المفيد بالتأكيد أن يطلع الطالب على نماذج من الشعر الجاهلي، لكن أن يكون منهاج الصف العاشر كله عن الشعر الجاهلي، فهذا غير مقبول لأنه هدر لقدرات الطالب العقلية.
-أما مادة القومية التي تُفرض دراستها ليست في المدرسة فقط وفي المرحلتين الإعدادية والثانوية بل في الجامعة أيضًا، وكانت كلها تدور حول الثالوث المقدس: وحدة، حرية، اشتراكية. حتى إنه في أحد الفحوص في الشهادة الإعدادية سؤال عن أقوال “الخالد” في التدخين. ولا يخفى على أحد في سورية فساد الجهاز التعليمي بشكل كبير، فصفوف البكالوريا (الشهادة الثانوية) فارغة تقريبًا، ومعظم الطلاب يقصدون المعاهد على الرغم من أنها ممنوعة في القانون، وكثر عدد الأساتذة الانتهازيين الذين باعوا ضميرهم، ولم يعودوا يعلمون الطلاب كما يجب في الصف، كي يوفروا أكبر كمية من الدروس الخصوصية لهم. وصار المهم هو الحصول على العلامة الكاملة وليس العلم، وأعرف العديد من الطلاب نالوا علامات كاملة في مادة اللغة الفرنسية مثلًا، عن طريق الحفظ الصمّ، لأوراق قدّمها لهم الأستاذ الخصوصي وساعدهم على حفظها، لا على فهمها وهم في حقيقة الأمر لا يفهمون كلمة واحدة باللغة الفرنسية، حتى مسائل الرياضيات والفيزياء صارت تحفظ صمّا.
وفي هذه الظروف الوحشية القسوة التي يعيشها المواطن السوري، حيث ترك ملايين الأطفال المدارس، يبدو الحديث عن تحديث نظام التعليم في سورية نوعًا من الترف، لكن لا بد من أن نطمح إلى الأفضل، ولا أنسى قول رئيس وزراء اليابان، حين سألوه كيف حققت اليابان ذلك التطور اللافت والعظيم في كل المجالات والعلوم، بعد أن خرجت مُدمرة من الحرب العالمية الثانية مثلها مثل مصر مثلًا، قال: السبب الرئيس أن أعلى رواتب في الدولة اليابانية كانت تُعطى لأساتذة المرحلة الابتدائية، لأنهم ينشئون الأجيال التي ستبني الوطن، بينما غرقت مصر، وغيرها من الدول العربية، في هدر المال العام والفساد بكل أشكاله.
المصدر